د. محمد بن عويض الفايدي
مستقبل الاستثمار وجهة حقيقة للبوصلة السعودية بتخطي محددي الزمان والمكان لتجسيد رؤية سعودية طموحة تأخذ بعين الاعتبار الفرص القابلة للاستثمار وتعمل على تحويلها إلى مشروعات وطنية ضخمة متاحة للمنافسة أمام سوق الاستثمار العالمي ضمن منظومة صناعية متكاملة تؤسس لصناعة الاقتصاد السعودي الحديث في إطار تحديث وتجديد لمنظومة الصناعة والتصنيع. والذي بدوره يبعث على استحضار المسؤولية المباشرة لمراكز البحث والتطوير الوطنية ومدى جاهزيتها لمواكبة هذه النقلة النوعية وتقديم خبرة استشارية سابقة ومواكبة واستشرافية لهذه التحولات الصناعية. وهو ما يُشكل تحدياً حقيقياً لمراكز البحوث والدراسات الوطنية وحصتها أمام المراكز الخارجية في ظل واقعها وإمكاناتها الحالية. فما مدى قدرة مراكز البحث والتطوير السعودية على قبول هذا التحدي؟
تنبهت الدول الصناعية وعديد من الدول حديثة التصنيع إلى أهمية دعم البحث والتطوير والتنمية التقنية بصفتهما السبيل الأوحد لتنمية الموارد وقطاعات الإنتاج والصناعة. وقد أثمرت تلك السياسات عن حدوث طفرات هائلة في الإنتاج والخدمات والعكس صحيح في الدول النامية، ومن بينها الدول العربية حيث تعتمد على استيراد التقنية كوسيلة للإسراع من التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
تعاني الدول النامية من انخفاض الإنفاق على البحث والتطوير وضعف الترابط بين مؤسسات الإنتاج والخدمات ومؤسسات البحث والتطوير، مما يؤدى إلى تشتت الجهود البحثية وانخفاض عائداتها في ظل معاناة البحث والتطوير من شح الموارد والإمكانات، ومن وجوده في أسفل قائمة الأوليات الاستراتيجية. كما أن معظم الجهود البحثية مازالت توجه إلى البحوث الأساسية ونسبة ضئيلة منها إلى البحوث التطبيقية، فضلاً عن غياب الدعم والمؤازرة للباحث. وكذلك من غياب سياسات واضحة المعالم توجه جهود العاملين في مؤسسات البحث والتطوير. فالسياسيات الحالية للبحث العلمي على المستوى الوطني هي في أحسن الأحوال سياسات مؤسسات منعزلة وغير منسقة وليست سياسات عامة في إطار مخططات وبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ناهيك عن أن غالبية البحوث القائمة لا تحاكي مشكلات المجتمع ولا تلبي متطلباته، لاسيما وأن غالبيتها نتاج لجهد فردي في الغالب يهدف إلى ترقيات علمية. إضافة إلى محدودية الاستفادة من نتائج البحوث والدراسات المتاحة، وسوء التنسيق بين مؤسسات المجتمع من جهة ومراكز البحوث والتطوير من جهة أخرى. علاوة على الشح في المعلومات عن البحث والتطوير، وندرة الخبرات الماهرة في مجال البحث والتطوير وضعف في وعي المجتمع بأهمية البحث، كذلك ضعف الطلب على مخرجات البحث ونتائج البحوث والدراسات.
يمتد القصور إلى عدم وجود استراتيجية متكاملة للبحث، وبيئة البحث والتطوير ليست جاذبة للباحثين الأكفاء، وضعف التنسيق وغيابه بين مؤسسات البحث والقطاعات المستفيدة، وتراجع دور القطاع الخاص في تمويل الأبحاث فما زالت الأبحاث تعتمد على التمويل الحكومي الجزئي. وتشير الإحصاءات ذات العلاقة بالبحوث والتطوير بأن أنشطة البحوث والتطوير المتخصصة في المملكة بدأت منذ ما يزيد على أربعة عقود من الزمن في عام 1397هـ، من خلال إنشاء مراكز بحثية متخصصة، من أهمها مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وبهدف الرقي بمستوى البحوث والتطوير في المملكة قامت المدينة بإيجاد برامج منح متعددة لدعم البحوث العلمية والتقنية التي تخدم أغراض التنمية في المملكة إلا أن تلك البرامج لم تتم الاستفادة منها كما ينبغي. كما أن منح براءات الاختراع لازالت لم تحول إلى منتجات ذات قيمة تنافسية.
يبدو أن أبرز عوامل الضعف الواضحة يتمثل في تدنى مستوى التواصل بين مراكز البحث والتطوير من جهة وبينها وبين الجهات المستفيدة من مخرجاتها، مما أدى إلى عدم فهم المشكلات التي تتطلب البحث والمعالجة. وبدا ضرورة تغيير فلسفة مراكز البحوث بالاتجاه إلى البحوث التطبيقية خاصة التقنية، وحتمية انفتاحها على مراكز البحث والتطوير في الدول المتقدمة والتعاون معها في مشروعات بحثية ذات بعد استراتيجي صناعي مباشر.
يُشكل تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة أحد أبرز التحديات التي تواجه الدول المتقدمة والنامية على حد سواء. ويلعب البحث والتطوير دوراً بارزاً في دفع عجلة التنمية وتوفير معطيات النمو والاستقرار. وتُعد مجابهة الفقر والجهل وقهر التخلف وتوفير الغذاء والدواء، وتطوير الصناعة وتحقيق الأمن والدفاع تحديات حقيقية قد تعجز عنها الحكومات، وتتفاوت الدول في آليات مواجهتها. كل هذا التفاوت والاختلاف يبرز جلياً من خلال الرعاية والاهتمام بنشاط البحث والتطوير وتفعيل دوره كخيار استراتيجي للمنافسة ومواجهة التحديات على المستويين الإقليمي والدولي.
في ظل التوجه نحو إحداث نقلة نوعية في برامج الصناعة والاستثمار في رأس المال الجريء على المستوى الوطني من خلال سلاسل الإمداد والتقنية الرقمية فإن جهود البحث العلمي والتطوير التقني لم تسبق هذه الإرهاصات وتؤسس لها ولم تعالج اختلالات بيئة البحث والتطوير التي مازالت جل جهودها البحثية توجه نحو البحوث الأساسية ونسبة ضئيلة منها إلى البحوث التطبيقية، فضلاً عن شح الدعم والمؤازرة للباحث. وكذلك من غياب سياسات واضحة المعالم توجه جهود العاملين في مؤسسات البحث والتطوير، فالسياسات الحالية للبحث العلمي هي في أحسن الأحوال سياسات مؤسسات منعزلة وغير منسقة وليست سياسات عامة في إطار مخططات التنمية الحديثة وبرامجها.
يعد إدراك رجال الأعمال وبعض قطاعات المجتمع الأخرى لأهمية وضرورة البحث والتطوير ضعيفاً، نتيجة لنظرتهم المحدودة تجاه استشراف الناتج البعيد لثمار ومخرجات البحوث والدراسات، وتأثيرها في جميع مجالات الحياة المختلفة. في ظل أن البحث والتطوير يعاني من نظام تسويق غير فعال للمخرجات، ومن عدم وجود سياسة تلزم المؤسسات البحثية الاستعانة بالكفاءات الوطنية لتنفيذ البحوث والدراسات.
إن تقدم البحث والتطوير يمكّن القطاع الصناعي من قيادة القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى مما يجعلها أكثر قدرة تنافسية وقيمة مضافه تنقلها إلى مصاف الصدارة في ظل التنافسية المطلقة التي يعيشها العالم المتقدم والنامي على حد سواء. على شرط أن يسبقها ويؤسس لها ويوجهها بحوث ودراسات ممنهجة وفق استراتيجيات وسياسات وخطط وبرامج ومسارات مزمنة ومحددة الأولويات ومقدرة الإمكانات والمخاطر والتكاليف والعوائد والفائض والهدر. والتركيز على دراسات الجدوى عبر مراحل الدورة الصناعية ومحطات سلاسل الإمداد العالمي.
50سنة مضت و50 سنة قادمة لعل أبرز نموذج في الخمسين عاماً الماضية (الانترنت) وما أحدثته هذه التقنية من نقلة نوعية في العلم والتعلم ونقل المعرفة والثقافة والسفر والاتصال والتواصل والصحة والإعلام والاقتصاد والمال والأعمال والبيع والشراء وغيرها. وقد تكون الخمسون عاماً القادمة حافلة بما هو مذهل من تسخير للفضاء واستدرار للأرض يغير وجه البشرية.
التعامل مع أنشطة البحث العلمي والتطوير التقني كعملية استثمارية بعيدة المدى يتطلب توفير آليات الاستقرار الإداري والمالي والهيكلي والاستعانة بخبرات الدول المتقدمة والمنظمات الدولية والإقليمية التي تهتم برسم استراتيجيات وسياسات وخطط هذا المجال وتمكين خبرتها من تطوير الخطط والمشروعات لإعطائها حظاً أوفر للنجاح. وإيجاد أقطاب وطنية في مجالات البحث والتطوير المختلفة.
مدينة للعلماء والباحثين من الأهمية بمكان إيجادها بروح المدن العصرية الحضارية لتندرج في إطار استراتيجية جديدة لتوطين التقنيات المتقدمة ودعمها بكل الوسائل من أجل إيجاد فرص الإقلاع التقني للتحليق بالأنشطة الصناعية نحو آفاق المستقبل وإيجاد قطاع صناعي قائد يقود الأنشطة الأخرى بما يحقق استدامة وشمولية التنمية. يُرصد لذلك إمكانات مادية وبشرية هائلة لإنشاء بنى تحتية للتطبيقات التقنية وتوطينها عن طريق إقامة مراكز بحثية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمعامل ومؤسسات وورش صناعية قائمة. مع مراعاة الاهتمام بالمرافق الضرورية التي تهيئ المناخ العلمي والتقني المناسب لقيام المشروعات البحثية المتكاملة.