رضا إبراهيم
هناك كثير يزعمون أن معظم العصبيين مجرمون، لكن الحقيقة بدت عكس ذلك تماماً، فقد اتضح أن معظم المجرمين عصبيون، لأن جهلهم ذوو ميول عصبية وبالأخص الذين يعانون من مركب النقص، كونهم يستصعبون الحياة، بما تفرضه من كفاح ونضال ومشقة، في الوقت الذي يستطيعون فيه بشيء قليل أو كثير من السهولة، الوصول إلى أهدافهم، دون بذل أي مجهود عملي شاق، سواءً كان بدنياً أو ذهنياً.
كثرة الغضب والتظاهر بالضد
ومركب النقص، هو شعور يستولي على المرء بأنه ناقص في نواحي الجسم أو الخلقة أو العقلية، فيحاول بسلوكه أن يظهر بمظهر السليم من هذا المرض، ويكون ذلك الشعور في أعماق نفسه، قد لا يستطيع المريض نفسه أن يدركه، وبسؤاله عنه يجيب بالنفي، ولكنه حقيقة واقعة يتصرف المريض به تصرفات كثيرة للتبرؤ منه، وبتدقيق النظر تظهر آلاف التصرفات، والتي تصدر من الإنسان نتيجة هذا الشعور، وفي أحيان كثيرة تكون مظاهر النقص واضحة، لكنها تكون مختفية وعميقة حتى يصعب تفسيرها، وكل شعور بالنقص يستلزم من صاحبه سلوكاً خاصاً يغطي به نقصه، إما بالظهور بمظهر الرجل الكامل، أو باعتزال الناس وكره مقابلتهم والاختلاط بهم، أو بكثرة الغضب، أو باعتقاد السوء فيهم، أو بكثرة الشكوى منهم أو نحو ذلك.
وهناك عيوب كثيرة توجد لدى الرجل أو المرأة، يمكن إرجاعها لمركب النقص فيه، وقد يغطي مريض النقص بالتظاهر بالضد، فيكون بخيلاً فيتظاهر بالكرم ويكون جباناً فيتظاهر بالشجاعة، وكاذباً فيتظاهر بالصدق وهكذا، لكن كل هذا التظاهر لا يقلِّل من النقص شيئاً، بل يزيده تثبتاً وتأصلاً، وقد تناولت بعض القواميس العلمية والطبية ذلك المصطلح، حيث جاء في قاموس (التراث الأمريكي)، بأنه شعور مستمر من عدم الكفاية أو الميل إلى تقليل المصير، ما يؤدى أحياناً إلى العدوانية المفرطة، عبر الإفراط في التعويض، وأما عن قاموس (أكسفورد للطب والرياضة) فعرَّف النقص بأنه اضطراب نفسي قد يعبر عن نفسه، خلال حالة الإنجاز نتائج معقدة من الصراع بين الرغبة في البحث عن الذات، وفي التعرّف على الحالة، والرغبة في تجنب مشاعر الذل من ذوي الخبرة في كثير من الأحيان بحالات مماثلة في الماضي.
ويتميز اضطراب السلوك التعويضي مثل العدوانية والانسحاب، ويعرفه ألفرد أدلر أحد أبرز منظري علماء النفس الفردي، بأنه شعور يحدو بالمرء إلى الإحساس، بأن الناس جميعاً أفضل منه في شيء أو آخر، ويفسر علم النفس كلياً عقدة النقص بأنها شعور الفرد بوجود عيب فيه، يُشعره بالضيق والتوتر ونقص في شخصيته، مقارنةً بالآخرين وخصوصاً في حالة الإنجاز، وما يدفعه بالتعويض لهذا النقص، بشتى الطرق المتاحة له، شعور المرء بأن غيره لا يثق في قدراته، ورفض هذا الشخص المصاب بالعقدة، أن يكون غيره أفضل منه، ومن ثم يحاول بأي طريقة أن يبين العكس، فتتطور هذه المحاولة منه والتعويض لجانب النقص منه، إلى مشكلة نفسية وصفة سيئة منبوذة من المجتمع.
وقد ينشأ مركب النقص في بعض الأحيان، نتيجة وجود تشوهات أو عجز بدني، وفي أغلب الأحيان يقوم أصحابها تعويضاً منهم عن شعورهم بالنقص، بإظهار قوة أخرى لمعادلة ذلك النقص، وهذه الأفعال التعويضية تجرى منهم دون قصد أو وعي، كونها من عناديات العقل الباطن، ويقال إن هتلر وموسوليني وستالين، كانوا جميعاً على شاكلة نابليون بونابرت من نواحي قصر القامة، وأنهم جميعاً حاولوا تعويض شعورهم بهذا النقص، من خلال الحصول على قوة الشخصية وجمع النفوذ السياسي في سلطتهم، بعد أن عز عليهم أن يغيِّروا ما خلقوا به، كما توجد هناك حالات من مركب النقص الأكثر شيوعاً، كان أهمها التي تنشأ عن سوء التربية النفسية، وبالأخص في مرحلة الطفولة.
مثل توجيه عبارات الضعف والتهديد والتهكم والمهانة والسخرية إليه، ما يبعث فيه الشعور بنقص نفسه وضآلته بالنسبة إلى الآخرين، وتبرز عجزه الخاص وتعرضه لأنواع شتى من الأخطار، ومختلف التجارب القاسية لأسباب واهنة في الأساس، وهو الأمر الذي يدفعه إلى أن ينشأ هياباً وجباناً عديم الثقة بذاته، وغير مطمئن أبداً للحياة، وعاجزاً كل العجز عن مسايرة مجتمعه، وبذلك فهو يحيا حياة ملؤها التشاؤم والقلق والاضطراب والنفور من المجتمع، ومن ثم يأتي التعويض عن ذلك النقص في صورة رذائل، لا يقبل المجتمع بها، ولا يستسيغها الشرع، حيث يتحولون إلى الطرف الآخر النقيض لشعورهم الذاتي، فيظهرون بهيئة زائفة من العظمة والقوة وشدة البأس.
وهي حيلة خداعية من حيل العقل الباطن، يُقصد بها إبراز صورة النفس الحقيقية، على هيئة مستترة تخفي بها المعالم الحقيقية، وبغير وعي ودون انتباه يندفعون إلى محاولة للسيطرة على المجتمع وإلى التعسف الشديد مع من يتعاملون معهم، وفرض أوامرهم علي الأهل أو الأصدقاء، لإشعارهم بالتفوق عليهم، ويتجلَّى غرضهم اللا واعي في تلك التصرفات بإرغام كل من حولهم على قبول القيام بدورهم، أي دور أصحاب مركب النقص، وهم في ذلك الوضع، يلبسون أنفسهم شخصية آبائهم أو أولياء أمورهم أو معلميهم أو رؤسائهم في العمل، الذين قسوا عليهم وهم في الصغر وسخروا منهم، وفرضوا عليه فروض الضعف والهوان، وهناك نوع آخر من أنواع مركب النقص يندر حدوثه، ويتمثَّل في شعور صاحبه بالخطيئة.
وذلك الشعور ينشأ عن إتيان الفرد أموراً، تعتبر في عرف المحرمات، يتأصل فيهم وهم في مرحلة المراهقة أو بعدها، ومن خلاله نرى أصحابها دائمي الإدانة لأنفسهم، يقضون كل أوقاتهم في الندم والتأسف على أعمالهم الماضية وسالف أخطائهم، وقد لا يعدو الأمر أن يصبح مجرد خطأ تقديري لعملية مالية أو لمشروع تجاري، خرجوا منه بخسارة مادية يصعب تعويضها، فلا يسمحون لأنفسهم بنسيان الأمر، رافضين مهادنة أنفسهم، وهناك نوع آخر منهم، يعيش حياة مرة مضطربة، جراء شعورهم بالخطيئة وإدانة النفس، وهم الذين يوالون إتيان أمور تُعد غير مشروعة، ولا يصح الإتيان بها، لكنهم يندفعون في طريقها، وهم يعادونها شاعرين بالأسى والخجل لما يفعلونه.
وبالحديث عن اصطلاح الدوافع، وهو ما يعني لغوياً التحفيز أو التحريك علي فعل شيء ما يبرز أن السلوك الإجرامي تستثيره بل وتوجهه العديد من الدوافع، ما يعني أن كل تصرف يقف وراءه دافع، أو عدة دوافع معينة، والدافع هي القوى المحركة الباعثة للنشاط في الكائن الحي، والتي تحمله علي السلوكيات الإيجابية أو السلبية، استجابة لإلحاح حاجة مادية أو معنوية أو تحقيقاً لهدف ما، أو عدة أهداف معينة، كما أن الدوافع هي الطاقات النفسية الكامنة، التي تعمل على توجيه الفرد، وتنسق كل تصرفاته وسلوكياته، أثناء استجابته مع الظروف والمؤثرات البيئية المحيطة به، وتمثل الدوافع ورغبات الفرد وحاجاته، وتوقعاته ونواياه الساعي لها دوماً لإشباعها وتحقيقها، كي يُعيد إلى نفسه الارتياح والتوازن، لذلك فإن بعض النظريات النفسية المفسرة للجريمة، اعتبرت أن الجريمة وممارسة السلوك العدواني، هي تعبير عن طاقة غريزية كامنة في اللا شعور، تبحث عن مخرج وهي غير مقبولة اجتماعياً.
أي أن سلوك الجريمة يُعد تعبيراً مباشراً عن الحاجات الغريزية والرغبات المكبوتة، أو أنه ناتج عن عدم التكيّف بين متطلبات الأنا الأعلى والهوى، وبالتالي فإن المجرم شخص لم يتمكَّن من التحكم في نزواته ورغباته المكبوتة في اللا شعور، أو أنه لم يتمكن من التسامي بها في سلوكيات مقبولة اجتماعياً، كما أن السلوك الإجرامي، قد يعزى إلى الشعور بالنقص، والصراع من أجل إثبات الذات، حيث إن عقدة النقص يمكن أن تؤدي إلى ارتكاب الجريمة، لأن هذه العقدة هي أفضل الوسائل لجلب الانتباه، وكي يصبح مركز اهتمام، ليعوض ذلك الإحساس باقتراف الجريمة، فنجد أن المصاب بمركب النقص يستطول المدة ويستصعب عليه الجهود وطول المشوار، ومن ثم يحاول اختصاره أو اختراقه من الجو، بوسائل من الأوهام والخيالات، بعد أن تخلى عن السير على الأقدام باعتبارها حركة بطيئة ومجهدة، ويقنع بما يستعان به من الخيال الباطل، أو بما تدفعه إليه الأوهام وتصوره له الأحلام.
وقد نجد المصاب بالنقص، يستعين تارةً بالأحجبة والسحر والتعاويذ والجان، لقضاء حاجاته وتحقيق متطلباته، وتارةً أخرى نجده يقدم على التصرف بالأموال التي في عهدته، لينزل به إلى السوق ليأتي بالعجائب، فيضارب ويغامر بأموال ليست ملكاً له، عساه الظفر بصفقات مالية كبيرة، تعجل إليه بالثراء، الذي سيوفر عليه عناء العمل وطول الانتظار، وإذا بالحقيقة تظهر أمامه سريعاً، وتتجلى ملامحها بين عشيةً وضحاها، ليخرج من المضاربة صفر اليدين خالي الوفاض ليفتضح أمره، ويُحاكم بتهمة السرقة أو الاختلاس.