عبدالعزيز بن محمد الفريان
لا شك أن الفوز التاريخي الذي حققه المنتخب السعودي على نظيره الأرجنتيني، في المباراة التي جمعت بينهما في منافسات كأس العالم التي تستضيفها دولة قطر الشقيقة، يعد نصراً رياضياً كبيراً، ذلك لأن هذا الانتصار كان يبدو على الورق أمراً مستبعداً إن لم يكن مستحيلاً، لأن الفريق الأرجنتيني بدأ أفضل للمراقبين من نواحي التاريخ والخبرة والمهارات الفردية والجماعية واللياقة والقوة البدنية، إضافة إلى وجود قائده الكابتن ميسي هو أحد أفضل اللاعبين الذين أنجبتهم كرة القدم العالمية، لكن أعضاء المنتخب السعودي ألغوا كل هذه الفوارق وقلبوا الطاولة على المتراهنين، وعلى الجميع، وانتزعوا النصر من بطل العالم لمرتين وبطل كوبا أميركا الحالي، وأحد أبرز المرشحين لنيل كأس بطولة العالم الحالية.
ومما يزيد من قيمة هذا الفوز التاريخي الكبير أنه كان مصحوباً بأداء قوي ورائع للأخضر واستعرض عناصره مهارات رفيعة، ولعبوا بروح الفريق وبمنتهى التناغم، وركضوا في أرض الملعب بلياقة عالية وقاتلوا كالأسود، وأظهروا قدرة كبيرة على المثابرة والإصرار لآخر لحظة، ومن على المدرجات قامت الجماهير بدورها على الوجه الأكمل فقد كان السواد الأعظم من الـ»88» ألف مشجع الذين تواجدوا في الملعب آرزوا الأخضر بقوة وساهموا بشكل كبير في النصر الكروي الكبير الذي سيبقى طويلاً في ذاكرة الرياضة العالمية.
وبعد أن أطلق حكم المباراة صافرة النهاية فرض سؤال كبير نفسه على الجميع: لماذا فاز منتخب المملكة، لقد حاول الكثير من المحللين الإجابة على السؤال ولكن إجابتهم لم تكن شاملة، وفي تقديري فإن أحد أهم أسباب النصر ذلك الحافز والدعم المعنوي الذي قدمه الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد ورئيس مجلس الورزاء، في كلمته لدى استقبال سموه للفريق والإطارين الفني والإداري، وأزال الضغوط الإعلامية والجماهيرية الموجهة على اللاعبين، عندما قال لهم «استمتعوا باللعب»، وطالبهم في كلمة حوت على الكثير من الجوانب الفنية البحتة والدعم النفسي، بتقديم أفضل ما عندهم، وكانت لهذه الكلمة التي أكدت أن سمو ولي العهد متابع لأدق تفاصيل رياضة كرة القدم، مفعول السحر في تفجير طاقات شبابنا وزادت من رغبة الفوز وقوت عزيمتهم، وملأتهم ثقة في النفس، وكلمة ولي العهد أيضاً أكدت أنه يؤمن بأن هذا الشعب القوي يستيطع أن يصنع المعجزات، ويتفوق بتميز متى ما استدعى عزيمته، وآمن بقدراته واجتهد وأخلص ليصنع المستقبل الذي يليق به وبأرضه وتاريخه الحافل بالانتصارات والأمجاد.
وكعادته عرف القائد الملهم كيف يستنهض الهمم، واختار ماذا ومتى يقول بدقة، وهذه هي المهارات القيادية التي ميزت القادة العظام الذين صنعوا التاريخ وخلدوا في في صفحاته على مر العصور.
لقد تجاوزت هذه المباراة ونتيجتها وردود الفعل التي أثارتها فضاء كرة القدم، إلى فضاءات أخرى، وكشفت عن الحب الشعبي الجارف الذي تحظى به المملكة العربية السعودية في العالمين العربي والإسلامي، فقد احتفلت تلك الشعوب بالنصر بشكل هستيري، حتى قبل الإعلان عن نهاية المباراة، وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بشكل غير مسبوق احتفالاً بالفوز، وتداول الرواد مقاطع أهداف المباراة، وهتافات الجماهير، والمشاهد الكوميدية المدبلجة للمنتخب الأرجنتيني ولقائده في مناكفات رياضية بريئة ومقبولة في مثل هذه الأجواء، وعلى الأرض توشحت ساحات وطرق الشقيقة قطر التي أبدعت في تنظيم هذا العرس الكروي باللون الأخضر لون أشرف الرايات، ومنها تمددت الاحتفالات إلى المملكة التي اهتزت طرباً وفرحاً من أدناها إلى أقصاها، وانتقلت هذه الاحتفالات إلى كل الدول العربية والإسلامية، حتى لاجئي الروهيغنا تناسوا أوضاعهم المأساوية وعبروا سعادتهم وأرسلوا تهانيهم، وبموازاة ذلك تبارى المسؤولون السياسيون ونجوم المجتمع من فنانين ودعاة ومشاهير في العالم العربي، في التعبير عن غبطتهم، وقدموا التهاني للمملكة وقيادتها وشعبها وفريقها الظافر، وقد أكدت ردود الفعل أن هذه الأمة مهما بدت وكأنها متباعدة ومتفرقة، فإنها ما زالت تحظى بالترابط ووحدة الوجدان وتعلم أن مصيرها في النهاية واحد.
وقد شهدت الرياضة السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين - حفظهما الله - تطوراً كبيراً، بفضل الاهتمام الكبير الذي تجده، فالدوري السعودي من أقوى وأفضل الدوريات في المنطقة، وعلى المستوى القاري تسيطر الكرة السعودية على كبرى بطولات الأندية الآسيوية، وعلى المستوى العالمي فإن المنتخب السعودي من أكثر المتخبات العربية تواجداً في المونديال العالمي، وكل مشاركاتها تكون مشاركات نوعية تضع بصمتها الرياضية وتعكس إرث وثقافة هذا الشعب الأبي المتطلع دوماً إلى الرقي والتطور في المجالات كافة، والحقيقة هي أن المملكة تحقق الانتصارات يومياً في المجالات كافة بفضل رؤية المملكة 2030، التي تدلت ثمارها ودنت، وانعكست في التطور الكبير الذي تشهده الخدمات كافة من صحة وتعليم وطاقة وفي النمو الاقتصادي والبنية التحتية..إلخ.
واهتمت رؤية المملكة بالرياضة بشكل عام للقبول والانتشار الذي تحظى بها، ولقدرتها وفعاليتها في تعزيز الانتماء الوطني، وتوطيد العلاقات بين الشعوب، واستثمرت المملكة في هذا المجال بنجاح ونجحت في استضافة الكثير من الأحداث الرياضية الدولية، وقامت أيضاً بشراء أندية عالمية، وفي الرياضات الأخرى غير كرة القدم استضافت في السنوات الأخيرة عددًا كبيرًا من الأحداث الرياضية الدولية الكبرى والمرموقة، التي تحظى بمتابعة عالمية، مثل رالي داكار والفورمولا 1، ومباريات الملاكمة رفيعة المستوى والعديد من بطولات الجولف إلى كأس السوبر الإيطالي والإسباني في كرة القدم. وتأتي هذه الجهود لتحقيق هدف إستراتيجي ومهم، وهو أن تصبح المملكة المحور الرياضي بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المرحلة الأولى، واحتلال موقع متقدم على خارطة الرياضة العالمية لاحقاً، وتمضي هذه الإستراتيجية كما خُطط لها تماماً.
واهتمام الرؤية بالرياضة لم تقتصر على الرياضة الاحترافية، بل امتدت لتشمل الرياضة المجتمعية وبالنمط الصحّي المتوازن، الذي يعتبر من أهم مقوّمات جودة الحياة، وفي هذا السياق عملت على إتاحة الفرص لممارسة النشاط الرياضي بانتظام، بإنشاء المزيد من المرافق والمنشآت الرياضية بالشراكة مع القطاع الخاص، ليستطيع الجميع ممارسة رياضاتهم المفضلة في بيئة مثالية، كما شجع الرياضات بأنواعها من أجل تحقيق تميزٍ رياضي على الصعيدين المحلّي والعالمي، والوصول إلى مراتب عالمية متقدمة في عدد منها.
إن النصر الرياضي الذي حققه أبطال الأخضر أيًا كانت نتائج المباريات القادمة، هو مجرد ملمح صغير من ملامح السعودية الجديدة، ورسالة مختصرة وبليغة مفادها «أيها العالم المملكة قادمة».
** **
- المدير التنفيذي للشؤون الإعلامية بمجموعة الدكتور سليمان الحبيب الطبية