«الجزيرة» - الاقتصاد:
سجّلت تداولات السلع انخفاضاً نسبياً هذا الأسبوع، في ظل استمرار التركيز على التطورات العالمية للاقتصاد الكلي، ما أدى في بعض الحالات إلى تراجع تأثير تطورات الاقتصاد الجزئي الداعمة عادة، مثل نقصان مخزونات العديد من السلع. ووجد الدولار دعماً جديداً وارتفعت عائدات السندات مع ظهور علامات بتباطؤ هبوط قيم الأسهم الأمريكية المستمر منذ شهر. جاء ذلك في تقرير لبنك ساكسو.
ونتجت هذه التطورات عن تعليقات مسؤولي الاحتياطي الفدرالي التي أكدت على مواصلة السياسة القائمة على رفع أسعار الفائدة بهدف تراجع مستويات التضخم إلى الحد الأعلى غير المُعدل والمُستهدف على المدى الطويل عند 2 %. ووضعت هذه التعليقات حداً للتوقعات بتحفيز البيانات الاقتصادية الضعيفة الأخيرة الاحتياط الفدرالي على تخفيض المُعدل المتوقع لرفع أسعار الفائدة في المستقبل.
وأدت هذه التطورات إلى تعزيز مخاطر تباطؤ الاقتصاد العالمي، نتيجةً لعدم السيطرة على مستويات التضخم، وخطر استمرار ارتفاع أسعار الطاقة، الناجم عن ارتفاع أسعار البنزين والديزل والفحم وبشكل خاص الغاز. ما يدل بوضوح على استمرار التضارب بين تطورات الاقتصاد الكلي والجزئي، الذي يؤدي بدوره على الأرجح إلى فترة طويلة من الغموض بشأن التوقعات قصيرة ومتوسطة المدى.
وبشكل عام، لن تغيّر هذه التطورات توقعاتنا طويلة الأمد حيال السلع وقدرتها على الارتفاع والتحسن بمرور الوقت. وقد سلطتُ الضوء، في الندوة الافتراضية ربع السنوية التي أُقيمت هذا الأسبوع، على بعض الأسباب التي تدفعنا للتوقع بتحقيق قطاعات الاقتصاد القديمة أو الأصول الملموسة أداءً جيداً خلال السنوات القادمة، مدفوعةً بنقص الاستثمار والتوسع الحضري وعملية التحول الأخضر والعقوبات المفروضة على روسيا وتراجع العولمة.
وبالنظر إلى أداء السلع خلال الأسبوع الماضي، يبدو تراجع مؤشر بلومبيرج للسلع الأساسية بنسبة 2.3 % منسجماً مع ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي أمام نظرائه من العملات الرئيسية العشرة التي يتتبعها المؤشر، بما فيها اليوان الصيني. ومن الجدير بالذكر، أن مؤشر السلع المذكور لا يتتبع تداولات الغاز والطاقة في المركز الأوروبي الهولندي تي تي إف والتي ارتفعت بنسبة 23 % و20 % على التوالي، وتداولات قمح مطاحن باريس التي انخفضت في المقابل.
وحقق قطاع الطاقة مكاسب وخصوصاً منتجات الديزل المُكررة والغاز الطبيعي الأمريكي، قابلها خسائر في القطاعات الأخرى، وبالتحديد قطاع الحبوب الذي شهد انخفاض أسعار القمح العالمية، وقطاع المعادن الثمينة الذي تأثر سلباً بارتفاع قيمة الدولار وعائدات السندات.
مواصلة التركيز على الحد من التضخم وتأثيراته على التنمية الاقتصادية
يُعد الدافع الأكثر أهمية لارتفاع السلع مؤخراً هو تأثر توقعات الاقتصاد الكلي حالياً بسياسة البنوك المركزية في مختلف أنحاء العالم القائمة على تعزيز جهودها لكبح جماح التضخم بإبطاء النشاط الاقتصادي من خلال فرض شروط نقدية صارمة ومتشددة، كما يأتي ارتفاع السلع نتيجة توقعات بتباطؤ نمو الاقتصاد الصيني، نظراً لسياستها الصارمة للوصول إلى صفر إصابات كوفيد-19 من جهة وأزمة سوق الإسكان التي أثرت سلباً في قطاع المعادن الصناعية من جهة أخرى. وكلما استغرق نجاح هذه العملية المستمرة وقتاً أطول، ازدادت خطورة تداعياتها الاقتصادية السلبية. وسجلت التوقعات الأمريكية لمعدلات التضخم خلال العام القادم تراجعاً كبيراً، إلا أن التوقعات متوسطة وطويلة المدى لا تزال مستقرة عند 3 %، متجاوزة هدف الاحتياطي الفدرالي عند 2 %.
ويبدو الوصول إلى نسبة 3 % تحدياً صعباً في الوقت الراهن، بسبب ارتفاع تكاليف المدخلات في قطاع الطاقة. لذا، لا يزال الفشل في الوصول إلى الحد المُستهدف أكبر خطر قصير الأمد يهدد أسعار السلع، في ضوء ارتفاع أسعار الفائدة الذي يُعيق التنمية، وتراجع أسواق الأسهم الذي يُضعف الإقبال على المخاطر. لكن هذه التطورات وغيرها من الأسباب، تزيد من جاذبية الذهب والفضة كأدوات للتحوط ضد أخطاء السياسات النقدية.
ساهمت التوقعات بمحصول روسي قياسي واستمرار تدفق المحاصيل الأوكرانية إلى جانب ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي في تخفيض أسعار القمح المتداول في باريس وشيكاغو، إذ شهد الممر المفتوح مؤخراً من أوكرانيا شحن أكثر من 500 ألف طن من المحاصيل هذا الشهر، وفي حين أنها لا تزال دون المعدل الطبيعي المُعتاد بكثير، إلا أنها ساعدت على تخفيف الضغوط قليلاً في فترة من الاضطرابات المناخية التي أوجدت صورة متباينة في مناطق أخرى. ووصلت تداولات العقود الآجلة للقمح في شيكاغو إلى أدنى مستوياتها في يناير تحت مستوى الدعم عند 7.75 دولار أمريكي للبوشل، فيما اقتربت تداولات قمح مطاحن باريس من أدنى مستوياتها منذ شهر مارس. ومع تبدد معظم أسباب الغموض، الذي أثار موجة من الشراء في مارس، ينبغي أن تهدأ الظروف والتطورات قليلاً، مع بقاء الحرب في أوكرانيا كأبرز السيناريوهات المفتوحة ومجهولة النهاية، وتأثيراتها على قدرة الدولة على الإنتاج وتصدير السلع الغذائية الرئيسية كالذرة والقمح وزيت دوار الشمس.
أسعار غاز الاتحاد الأوروبي تصل إلى 73 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية بريطانية أو 415 دولاراً من مكافئ برميل النفط.
اتجه الغاز الطبيعي في أوروبا إلى تسجيل أطول سلسلة من المكاسب الأسبوعية هذا العام، معززاً الضغوط على القطاعات الصناعية والمنازل، ومهدداً في الوقت ذاته بدفع اقتصادات المنطقة نحو الركود. ويعود الارتفاع الأخير لأسعار الغاز والطاقة، المرتفعة مسبقاً بسبب انخفاض الإمدادات من روسيا، إلى موجة الحر في أغسطس التي رفعت مستويات الطلب من جهة، وخفضت منسوب مياه نهر الراين من جهة أخرى. الأمر الذي أدى بدوره إلى إعاقة المرور الآمن لسفن شحن الفحم والديزل والمواد الأساسية الأخرى، ودفع بمصافي التكرير، مثل مصفاة شيل لتكرير النفط في راينلاند بألمانيا، إلى تخفيض الإنتاج. إضافة إلى ذلك، تراجعت قدرات صهر الألمنيوم والزنك في أوروبا إلى النصف، ما يضيف مزيداً من الدعم لأسعار هذين المعدنين في ظل مخاوف السوق بشأن توقعات الطلب.
ويمكن أن تساهم غزارة الأمطار وانخفاض درجات الحرارة في تخفيض الأسعار المرتفعة مؤخراً على المدى القصير، لكن القلق الكبير حيال مستويات العرض اللازمة لأشهر الشتاء القادمة لا يزال قائماً. خصوصاً في ضوء المنافسة المحتملة من دول آسيا على شحنات الغاز الطبيعي المسال.
تُبدي تداولات النفط الخام، المتراجعة منذ يونيو، تباطؤاً في عمليات البيع، ما يضفي على التوقعات الفنية مزيداً من الإيجابية والتفاؤل، إلى جانب مساهمة التطورات الأساسية الجديدة في توفير مزيد من الدعم. وشكّلت المخاوف من تباطؤ الاقتصاد، بسبب تعامل الصين المضطرب مع انتشار كوفيد-19، إلى جانب أزمة قطاع العقارات فيها والارتفاع السريع لأسعار الفائدة، الدوافع الرئيسية لنشاط عمليات البيع منذ مارس في مختلف قطاعات السلع، قبل أن تصل في النهاية إلى النفط الخام في منتصف يونيو. ومنذ ذلك الحين، شهد خام برنت تصحيحاً شاملاً بقيمة 28 دولاراً أمريكياً.
وتواجه توقعات الاقتصاد الكلي تحديات باستمرار، نتيجة التطورات الأخيرة في الاقتصاد الجزئي لسوق النفط والتي عززت احتمال حدوث انتعاش فيه، حيث تستمر أزمة الطاقة في أوروبا بالتفاقم، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الغاز، وبالتالي دعم التوجه نحو المنتجات المعتمدة على الوقود. وذكرت وكالة الطاقة الدولية، في تقريرها الأخير، التحول من الغاز إلى النفط بالتحديد كسبب رئيسي دفعها إلى زيادة توقعاتها لنمو الطلب العالمي على النفط لعام 2022 بنحو 380 ألف برميل يومياً، لتصل إلى 2.1 مليون برميل يومياً. ومنذ نشر التقرير، اكتسب التحول مزيداً من الزخم، مؤدياً بدوره إلى ضغوط متزايدة على هوامش أرباح التكرير.
وبالرغم من ظهور موجات من تراجع الطلب خلال الأشهر الماضية، لا نتوقع أن تؤثر بشكل مادي على توقعاتنا الإجمالية بدعم الأسعار، إذ لا يمكن تجاهل الشكوك الكبيرة في مستويات العرض، خصوصاً في ظل اقتراب الانتهاء من عمليات سحب النفط الخام من الاحتياطيات الإستراتيجية الأمريكية، إلى جانب الحظر الوشيك للاتحاد الأوروبي على النفط الروسي، إضافة إلى ارتفاع الطلب على المنتجات المعتمدة على الوقود بدلاً من الغاز عالي التكلفة. وبناءً عليه، نتوقع استمرار التداول ضمن نطاق 95-115 دولاراً أمريكياً للبرميل خلال الربع الثالث من العام.
تعثر الذهب والفضة أمام ارتفاع الدولار وعائدات السندات
اتجه كلا المعدنين، خصوصاً الفضة، إلى تسجيل هبوط أسبوعي بعد إدلاء عدة أعضاء في اللجنة الفدرالية للأسواق المفتوحة بتصريحات داعمة لرفع أسعار الفائدة، ما ساعد على تعزيز قيمة الدولار وارتفاع عائدات السندات الأمريكية لأجل عشر سنوات بواقع 3 %. لكن الركود الذي أصاب تداولات المعدنين ساهم في تحفيز عملية الانتعاش خلال الأسابيع الماضية، ومع تسجيل أسواق الأسهم ارتفاعاً في الوقت ذاته، يُعزى ارتفاع الطلب على الذهب بشكل رئيسي إلى الزخم الذي نشأ عن توجه المضاربين في سوق العقود الآجلة.
ونتيجةً لهذا التوجه، يرجع التحول في الأسبوع الماضي إلى ضرورة تخفيض الرهانات المتفائلة بعد موجة شراء هي الأقوى منذ ستة أشهر، حيث امتدت لأسبوعين، وقادت إلى ارتفاع صافي عقود الشراء الآجلة بقيمة 63 ألف لوت أو 6.3 مليون أونصة. وبالمقابل، تراجعت حيازات الصناديق المتداولة في البورصة إلى أدنى مستوياتها منذ ستة أشهر، ما يشير إلى ثقة المستثمرين بقدرة اللجنة الفدرالية للأسواق المفتوحة على الحد من التضخم خلال فترة زمنية قصيرة نسبية. لذا ينبغي للمستثمر المتخوف من ذلك الاحتفاظ بصفقات الشراء كأداة للتحوط ضد أخطاء السياسة النقدية.
وربما يُصاب بعض المستثمرين بخيبة الأمل من جراء الأداء السلبي للذهب أمام الدولار من بداية العام وحتى اليوم، لكن نظراً إلى مواجهته أكبر ارتفاع في العائدات الحقيقية منذ عام 2013، إلى جانب ارتفاع الدولار، فإن أداءه ما زال مقبولاً نسبة إلى الخسائر في السندات والأسهم، خصوصاً بالنسبة إلى المستثمرين بغير الدولار. بمعنى آخر، لا يزال الذهب خياراً آمناً، وبلا خسائر تقريباً، كأداة للتحوط ضد أخطاء السياسة النقدية أو أي توترات جيوسياسية غير متوقعة.