رضا إبراهيم
كان وما زال للغة شأن عظيم، وهي تمثل إستراتيجية مهمة جدًا لأي أمة، واللغوية أو بشكل أكثر تحديداً (الكلمات نفسها) هي أقوى سلاح في الحرب السياسية، ما دفع كثير من الأمم إلى الحفاظ على سلامة لغتها، حرصاً منها على ذاتها. واللغة تُعد هي البداية، وأصل الكلام، وهي التعبير الأول، واللغوية لها دور مهم في مخاطبات البشر وبالتعاملات كافة.
ويُعد التحدث والكتابة والقراءة جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، واللغة هي الأداة الأساسية للتعبير والتواصل، ومن خلال دراسة كيفية استخدام الناس للغة وما هي الكلمات والعبارات التي يختارونها ويجمعونها دون وعي، يمكن أن يساعد ذلك على فهم الأنفس بشكل أفضل، ولماذا نتصرف بالطريقة التي نتصرف بها، وباعتبار اللغة ظاهرة ثقافية واجتماعية ونفسية، يسعى علماء اللغويات لتحديد ما هو فريد وعالمي، بشأن اللغة التي نستخدمها وكيفية اكتسابها والطرق التي تتغير بها مع مرور الوقت.
وفي كتابه الشهير «اللغة والمسئولية» لعالم اللغة والفيلسوف الأمريكي ناعوم تشومسكي اشتمل على فصل كامل ومتميز خصصه حول علاقة اللغة بالسياسة، حيث نبه فيه إلى أن اللغة تلعب دوراً كبيراً ومؤثراً في السيطرة على عقول الشعوب وعلى توجهاتها، وأوضح من خلال العديد من الأمثلة والنماذج، على كيفية استخدام اللغة في تبرير الأيديولوجيات السياسية والعسكرية والاجتماعية، لأن الأيديولوجيات المختلفة التي يصوغها علماء الفكر تعتمد في المقام الأول على الفكرة والبراعة، بصياغتها في قوالب لغوية مؤثرة وفاعلة.
وشدد تشومسكي أيضاً على قوة العلاقة بين الدراسات اللغوية والعلوم الإنسانية، وأكد أن الدراسات اللغوية تُعد جزءاً من الدراسات النفسية، ينبغي أن تُفهم العلاقة بينهما على هذا الأساس، وأما التمييز بينهما فمن أجل الدراسة، لأن الدراسات اللغوية هي لدراسة اللغة والنفسية لاكتساب اللغة والإفادة منها، لذلك يجب التعامل مع اللغة على أنها ليست مجرد كائن، أو حتى مجموعة من الممارسات، ولكن باعتبارها تشريعًا لنظام جماعي، والتيقن من أن اللغة على اتصال بالقوى السياسية والاقتصادية والتاريخية، التي شكلت الحياة اليومية في المجتمع، بينما أيديولوجيات اللغة تكمن في النظام الجماعي، أي المعتقدات والمواقف التي تشكل علاقات المتحدثين مع لغاتهم ولغات الآخرين، وسرعان ما أصبحت الأيديولوجيات اللغوية أمراً مفروغاً منه بذلك المجال.
هذا، وقد طبق العلماء وبالأخص «الأنثروبولوجيا اللغويون» رؤى على دراسات حالة معينة، حيث دعا التفاوت اللغوي والاجتماعي والتسلسل الهرمي، إلى تنظير واضح للسلطة في العلاقات الاجتماعية، وفي الوقت نفسه تقريباً كان العديد من العلماء الآخرين، يشاركون في مشاريع مماثلة تربط بين اللغة والقوة، وقاموا أيضاً بتطوير الطبيعة متعددة الوظائف للغة المستخدمة، والاعتراف بأن اللغوية كمثال لا تعبر فقط عن الأفكار، ولكنها تشكل العلاقات وتحرك الناس للعمل، وأدى الاهتمام المستمر بالتشكيلات الأيديولوجية التي تشكل الممارسات التواصلية التي أفرزها نموذج الأيديولوجية اللغوية، إلى إنتاج أطر نظرية جديدة غنية، مثل أيديولوجيات وسائل الإعلام والأيديولوجيات السيميائية، والمشيدة على رؤى حول طبيعة الجماهير، إذ إن صراعات القوة الاقتصادية، مرتبطة بأيديولوجيات سائدة أخرى، للحصول على هيمنة تمثل القيادة والسلطة عبر المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والأيديولوجية للمجتمع، حيث يتم تحقيق ذلك ليس فقط من خلال السيطرة على الطبقات التابعة، ولكن بكسب موافقتهم من خلال الوسائل الأيديولوجية.
وتجدر الإشارة إلى منظور أيديولوجيا اللغة، يبدأ كالذي تبنته من فرضية أن القوة تشكل جميع التفاعلات إلى حد ما، وقد نشأ تطور هذا المفهوم من رغبة واسعة النطاق، لفهم هذه الديناميكية ورسمها، كما شغل فهم كيفية عمل القوة في المجتمع قدراً كبيراً من الاهتمام، بالرغم من أن اللغة وخاصة اللغة المستخدمة، نادراً ما لعبت دوراً في فهم القوة، ولكن في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، بات واضحاً وبشكل متزايد أنه من أجل فهم استخدام اللغة في جميع تفاصيلها، يمكن أن نرى أمثلة عديدة للغة تُستخدم لتأكيد القوة بكل مكان حولنا، ومن بين الأسباب الأخرى، يمكن استخدام اللغة لجعلنا نقتنع بشيء ما أو بشخص ما لإقناعنا بشراء شيء ما أو التصويت لمرشح ما، أو لضمان اتباعنا للقانون والتصرف كأفراد أو مواطنين صالحين.
ولأن كلاً من السياسة والسلطة أي (القوة المؤثرة والأداتية) تسيران جنباً إلى جنب، يستخدم نفر من السياسيون الخطاب السياسي بخطاباتهم، لإقناع الآخرين لمنحهم السلطة، مستخدمين البلاغة وهي فن استخدام اللغة بشكل فعَّال ومقنِع، لذلك يشير الخطاب السياسي إلى الإستراتيجيات المستخدمة لخلق حجج مقنعة بشكل فعَّال بالمناقشات السياسية. وفي كتابه (اللغة والقوة) الصادر عام 1984م يشرح أستاذ اللسانيات البريطاني نورمان فاركلوف، كيفية عمل اللغة كأداة للحفاظ على القوة بالمجتمع وخلقها، لأن العديد من اللقاءات كمصطلح واسع لا يشمل المحادثات فقط، بل يشمل أيضاً قراءة الإعلانات غير المتكافئة، فاللغة التي نستخدمها أو التي نحن مقيدون باستخدامها قد تعكس هياكل السلطة بالمجتمع، مضيفاً بأنه في المجتمع الرأسمالي تنقسم علاقات القوة عادةً إلى الطبقات المسيطرة والمهيمنة، أي الأعمال التجارية أو ملاك الأراضي وعمالهم.
وخلاصة القول، ففي الوقت الذي أكد فيه أهل النسبية اللغوية بقولهم (لغتي هي عالمي وحدود لغتي)، فقد اعتبرها كثير من المفكرين بأنها من أشد الأسلحة الأيديولوجية ضراوةً، بعد أن فرضت قوى السياسة، وقوى المال والتجارة والصناعة، سيطرتها على وسائل الإعلام الجماهيري، التي بات وابل رسائلها المنقولة عبر مختلف الهوائيات، يفعل ما كانت تفعله من قبل منصات الأسلحة الموجهة.