د.عبدالله بن موسى الطاير
لقد صاغت الثورة الاجتماعية في السبعينيات من القرن الماضي كلمة «مهمشون» لوصف تجارب أولئك الذين يعيشون على هامش التيار السائد في أمريكا. حيث يتم استبعاد هؤلاء الأشخاص بشكل ممنهج من المشاركة الكاملة في الحلم الأمريكي وبالتالي يفتقرون إلى الكفاءة الذاتية لتحسين حياتهم. ورأى الداعون إلى حقوق هذه الفئات المهمشة أن المجتمع يدفع كلفة باهظة عندما يواجه الناس عوائق أمام توظيف إمكاناتهم في خدمته. وبمرور الوقت توسع مصطلح «المهمشون» من الإشارة في الأصل إلى الأقليات والأشخاص المهمشين بسبب الفقر، ليشمل قائمة طويلة من الثقافات والسكان.
توسع المصطلح جعله يشمل طيفاً واسعاً ممن يمكن اعتبارهم مهمشين، وتختلف نظرة الناس لهم من مجتمع إلى آخر، كما تسهم التشريعات والشرائع والعادات والتقاليد في قبولهم من عدمه. ومن أمثلة المهمشين حسب بعض الكتابات المتخصصة مثليو الجنس والمتحولون، كبار السن، الأقليات العرقية والثقافية (يدخل فيها المعتقد واللون)، قدامى المحاربين، الأشخاص الذين تقل نسبة ذكائهم عن المتوسط، الأشخاص الذين يعانون من مشاكل سمعية وبصرية وبدنية، الأشخاص المصابون بمرض عقلي خطير ومستمر، الأشخاص ذوو الإعاقات الإدراكية، المقامرون ومتعاطو المخدرات، الأشخاص المصابون بطيف التوحد، الموهوبون والمتفوقون، الأشخاص المصابون بالتشوه، الفقراء، مرتكبو الجرائم الجنسية، المتشردون، والمجرمون.
ومن هذه التصنيفات ما هو مقبول ومنها ما يحار العقل في قبوله، فالمجرم سواء أكان قاتلاً متسلسلاً أو متورطاً في جرائم جنسية ينفر منه المجتمع خوفاً وليس اقصاءً له بالضرورة حتى يطمئن الجميع أنه أخذ عقابه وأصلح حاله وعاد مواطناً طبيعياً، وهنا ليس المجتمع مسؤولاً عن تهميشه أو قبوله وإنما أنظمة العمل وتشريعات الخدمة العامة.
بعض المهمشين كالشواذ (قريباً ستصبح هذه المفردة مجرمة الاستخدام) صوتهم أعلى من عامة الناس في مجتمعهم، فالقوانين تسن لدعمهم، والمنظمات الدولية تتنادى لتمكينهم، وأصبح التعبير عن رفضهم في بعض المجتمعات جريمة يعاقب عليها القانون، بل وصل الحال ببعض المجتمعات إلى معاقبة عامة الشعب بعدم تمكينهم من تحديد نوع المولود وترك ذلك لاختياره عندما يكبر. التطرف في دعم وتمكين المهمشين لا ينبغي أن يكون على حساب الأكثرية، ولا على حساب معتقدات الناس، ولا على حساب ما وقر في النفوس واطمأنت له من الصواب.
إن ما يجده الشواذ من اهتمام يفوق اهتمام الدول الراعية لهم بالمهمشين الذين أخرجوا من أوطانهم قسراً مثل الروهينجا، أو كبار السن، أو قدامى المحاربين، أو الملونين، أو الأقليات الدينية في الغرب. ويحار المرء في معرفة الأسباب الداعية إلى هذا الاهتمام الذي تجاوز منحهم حقوقهم الطبيعية كمواطنين إلى تمكينهم واستهداف دول مستقرة بسببهم.
قبل فترت كنت أقرأ بعض الأوراق العلمية التي أعدت في بعض بلدان شرق آسيا، وخلُصت إلى أن هذا النوع من الأقليات أصبح يمثل خطراً على وحدة البلدان وأمنها واستقراراها من خلال توظيفهم للإضرار باللحمة الاجتماعية وخلخلة البنى السياسية وتهيئة الظروف للانقلابات والثورات، وأسهبت تلك الأبحاث في شرح مصادر تمويلهم، ونقاط دعمهم ودور السفارات الأجنبية في تنسيق أنشطتهم ومراقبة أداء الأجهزة الأمنية تجاههم.
شعور بعض المجتمعات بعقدة الذنب تجاه أقليات أو مهمشين كشعور الألمان تجاه اليهود، والأمريكيين البيض تجاه الأمريكيين الأصليين وتجاه السود لا تبرر لهم أن يعمموا ذنوبهم على العالم ويضطرونه إلى التطهر لا حقاً مما لم يدنسه سلفاً. كل نفس لها حق في العيش الكريم، ولها الحق في ألا تمارس الدساتير والأنظمة والتشريعات التمييز ضدها، ولكن ليس مقبولاً أن تتحول من فئات مهمشة إلى حركات سياسية مهيمنة يحرم على الآخرين معارضتها.
الذي يتابع الحراك الأمريكي يجد أن نصف الأمريكيين يختلف مع نصفه الآخر على قضايا منها تمكين الشواذ، ويأبى فرضهم وتحصينهم ضد النقد أو حتى التلميح بالاختلاف حولهم. هناك فرق بين الاعتراف بوجود أناس شذوا عن السائد، ولهم حقوقهم الإنسانية كاملة، وبين أن تتحول إلى هذه الفئات غير الطبيعية من وجهة نظر الأكثرية في هذا العالم إلى رموز وقدوات في السياسة والإعلام والترفيه والإنتاج الإعلامي.
بالدارجة إذا زاد الشيء عن حده انقلب لا محالة إلى ضده، وبالنحوي لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه، وبروز حركات اليمين المتطرف في أمريكا والغرب يؤكد على أن المجتمعات سئمت هذا العبث الليبرالي المتطرف.