عبدالرحمن الحبيب
لا غنى لأي دولة في العالم عن الجهاز البيروقراطي، ومع ذلك فإن كلمة «بيروقراطية» في العالم كله هي ذات مدلول سيئ أو سلبي في أحسن الأحوال، وقولك عن مسؤول أنه بيروقراطي هي انتقاد لتعقيده الإداري وتشدده بالروتين. قد ينزعج الشخص المراجع أو القطاع الخاص من الإجراءات البيروقراطية حتى لو كانت عادلة وضرورية كالمثل الشعبي «مأكول مذموم».. لذا، يطالب البعض، خاصة من القطاع الخاص، بتحجيم الجهاز الإداري والإجراءات الروتينية إلى أدنى حد، وتحويل حوكمتها على طريقة الشركات الخاصة مثل مقدار الأرباح وإرضاء الزبائن ومنافسة القطاعات الأخرى، بينما ثمة من يرى خطورة ذلك التوجه..
منذ بداية مسيرته العلمية في التسعينيات، دأب المفكر الاجتماعي وبروفيسور الإدارة والأعمال بول دو جاي على التحذير من أن نموذجًا للإصلاحات النيوليبرالية كان يهدد «الروح البيروقراطية» التي هي مجموعة محددة من القيم والممارسات النظامية التي يمكن لموظفي الدولة من خلالها إنجاز مهمتهم في الخدمة العامة (المدني والقضائي والعسكري)؛ لأن هذه الإصلاحات، التي نفذتها أحزاب من اليسار واليمين، هدفت إلى جعل مؤسسات الدولة تشبه الشركات التي يحركها الربح في هيكلها وأنظمة الحوافز للموظفين لتصبح نموذجًا لإعادة تنظيم الدولة. كانت حوكمة الشركات تستغني عن السيطرة المباشرة والتسلسلات الهرمية الرسمية المعتمدة على الخبرة والأداء وتستبدلها بنوع جديد من المديرين ترتكز ترقيته على نجاح فرعه في منافسة الآخرين كما يحصل في القطاع الخاص، مما يشجع على المبادرات التي ترتكز غالبا على البهرجة المبتذلة والمسرفة لتملق رؤسائهم حسب المفكر جاي الذي سبق له أن أصدر عام 2000 كتاباً بعنوان «في مديح البيروقراطية».
قد تبدو فكرة الدفاع عن البيروقراطية غريبة وربما مزعجة، لكن جاي يؤكد أن الروح البيروقراطية ضرورية لعمل الدولة، وهي في خطر على حد سواء من إصلاحات النيوليبراليين المستوحاة بشكل خاطئ من التغييرات في حوكمة الشركات، أو من الشعبويين الذين يرددون الكراهية لشمولية الدولة وعملائها البيروقراطيين. لسوء الحظ بالنسبة للمستقبل، يبدو أن تكنوقراط توجه السوق والشعبويين يمثلون الآن الاتجاهين السياسيين الرئيسيين، فكلاهما مع تقليص دور الدولة وجهازها البيروقراطي إلى أدنى حد ممكن ويسعيان إلى نموذج الشركة المعاصرة أو إلى استبداد الأغلبية الطارئة. بين أحزاب السوق وأحزاب الشعب، قد تتراجع الدولة والبيروقراطية إلى لا شيء حسب جاي.
في تأييد لأفكار جاي كتب الباحث بلاك سميث مؤخراً في مجلة فورين بولسي مقالة بعنوان: «فقط البيروقراطية المطلقة يمكنها انقاذنا» لأنها محايدة وموضوعية في ظل الاضطرابات والشعبوية وحالة الاستقطاب الحادة بين الفصائل المختلفة داخل المجتمعات الغربية، موضحاً أنه عندما تكون الدولة في حالة أمن وأمان يبدو الهدف الأساسي للدولة المتمثل في الحفاظ على الأمن سهلاً ويتم الاستخفاف بهذه المهمة باعتبارها متواضعة.. ومن هنا، أصبح من الصعب على المراقبين في الغرب فهم الأمن باعتباره الوظيفة الأساسية للدولة والبيروقراطية كوسيلة لا غنى عنها لتحقيق هذه الغاية.
الدولة هي مجموعة من المؤسسات الإدارية التي يُتصور أنها تشكل شخصية جماعية فريدة من نوعها، والتي تصمد عبر التغييرات في الحكومات. واجب الدولة الأساسي والثابت هو ضمان بقائها وأمن المواطنين، وثانيًا فقط أن تترجم رغبات الحكومة والشعب إلى سياسة. هذا ضمن ما جاء في كتاب نشر مؤخراً بعنوان «للخدمة العامة: الدولة والمكتب والأخلاق» (For Public Service: State, Office and Ethics) لمؤلفه دو جاي بمشاركة توماس لوبدروب هورث، الذي يستعيد تقديرنا للدولة وخدمها البيروقراطيين، حسب استعراض بلاك سميث.
يستعرض الكتاب التاريخ الأوربي قبل الدولة الحديثة من فوضى الحروب الدينية والصراعات المذهبية؛ ويخلص إلى أن هذه الدولة ببيروقراطيتها هي الطريقة الوحيدة التي تمكنت آنذاك من تحقيق السلام في مجتمع لا يزال منقسمًا بسبب الاختلاف الديني منذ قرون. لكن هذا التاريخ المنسي يحمل دروسًا مهمة في لحظتنا المضطربة، قد لا يتم استعادة السلام الاجتماعي في الغرب أبدًا حتى يتم استعادة السلطة المطلقة للبيروقراطية، بالمعنى الذي ينقله هذا التاريخ..
بالنسبة لزمننا الحاضر، قد تبدو هذه الفكرة مزعجة بزعم استبداديتها، لكن المؤلفان يجادلان بأن هذا الخلط يستند إلى فهم خاطئ لمعنى الحداثة السياسية الغربية كما ظهرت من حروب أوروبا الدينية قبل أربعة قرون.. التعصب الأيديولوجي (مثال هتلر وستالين)، والاضطهاد من قبل المتعصبين الذين يعلنون صراحة عن نواياهم في إعادة تشكيل المجتمع على صورة قيمهم، بينما البيروقراطية هي التي تجعل الدولة الحديثة محايدة ومختلفة بشكل حاسم عن أسلافها الطائفيين والاستبداديين، حسب الكتاب.
في مقال نُشر عام 2019، أظهر جاي عواقب التحول من الرؤية القديمة التي اكتسب فيها الموظفون الأقدمية من خلال إثبات خبرتهم في أدوار محددة إلى النموذج الجديد الذي يقيمهم وفقاً لصفات «عامة فضفاضة وشخصية « مثل الحيوية والقيادة. لم يعد يتم تحفيز الموظفين لرؤية أنفسهم المهنية كشخصية متميزة، شخصية منفصلة عن الالتزامات الأخلاقية والميول العقائدية وطموحات التعظيم الذاتي لحياتهم الخاصة، بل يتم استدعاؤهم، كما تقول العبارة الشائعة، «لإحضار ذواتهم بالكامل» إلى العمل. ومن هنا، حذر جاي وزملاؤه من أن نتائج هذا التحول كارثية في عالم الأعمال وفي الإدارات العامة التي قلدته.