عرض - أبو الحسن الجمال:
يستحق الشاعر والناقد الكبير عبد الرحمن صدقي أن يعود ذكره بقوة إلى الساحة الأدبية مرة أخرى بعد أن ظل منسياً فترة من الزمن منذ أن رحل عام 1973، وقد جمع الرجل بين الأصالة والمعاصرة، وكان لنشأته في حي شعبي هو حي الدرب الأحمر وتعلمه واطلاعه على الآداب العالمية وغرامه بالفنون ومنها فن الأوبرا الذي غلب عليه نفسه، كل هذا ساهم في صقل تجربته الإبداعية والفكرية.. فهو كما يصفه الدكتور إيهاب النجدي، جامع ديوانه في المقدمة، حينما قال: «رجل الفن والفكر والعمل».
نبغ الشاعر عبد الرحمن صدقي (1896- 1973) في الأدب والترجمة والتحرير الصحفي، وتدريس الأدب المسرحي، وفي الإدارة الثقافية حيث مديراً لمصلحة الفنون، ومستشاراً للتلفزيون العربي، وكان الرجل عاشقاً لفن الأوبرا - كما ذكرنا - وقد قضى عشرين عاماً في التأليف.. وكان عاشقاً للقراءة وكانت مكتبته مرتبة ترتيباً عبقرياً.. فهذا ركن شكسبير، وهذا ركن العقاد، وذاك ركن ترجمات القرآن، والمعاجم وغيرها.. وقد ذكر عنه أنه لم يأس على شيء أيام مرضه أساه على القراءة والكتب فقال: «لم يكن خاطر الموت يفزعني، وإنما كان يحز في نفسي أني أموت قبل أن أشفي غلتي من القراءة.. إن خزائن كتبي زاخرة بعشرات المئات من المؤلفات المختارة في أكثر من لغة، ولم تترك لي الوظيفة فسحة من الوقت لدراسة الجزء الأكبر منها».
ترك عبد الرحمن صدقي منجزاً أدبياً رائعاً تنوع بين الشعر، والدراسات الأدبية، وكتابة التراجم، والنقد والتاريخ والترجمة، وهذا المنجز يشهد على تفرده واحتلاله مكانة متميزة بين أبناء عصره، وكان حرياً بالعقاد أن يقول عنه: «ناقد ذواقة يقل نظراؤه في استحسان الحسن من تحف البلاغة الأدبية والشرقية». ومن كتبه نذكر: «الشاعر الرجيم بودلير»، و»ألوان من الحب»، و»أبو نواس قصة حياته في جده»، و»ألحان الحان: أبو نواس في حياته اللاهية»، و»الشرق والإسلام في أدب جوته»، و»طاغور والمسرح الهندي»، و»ليالي سطيح لحافظ إبراهيم»، و»المسرح في العصور الوسطى». ودواوينه الشعرية «من وحي المرأة»، و»حواء والشاعر».
عبد الرحمن صدقي شاعراً:
يرى كثير من النقاد والكتاب أن ديوان «من وحي المرأة» الذي كتبه في رثاه زوجته ونشر في طبعته الأولى عام 1945- كان أول عهده بالشعر.. حتى النقاد الذين تناولوه في دراسة علمية كالدكتور محمد موافى في كتابه «رثاء الزوجة بين عزيز أباظة وعبد الرحمن صدقي» حيث قال: «واللافت للنظر أن كليهما - أي صدقي وأباظة- لم يعرف الشعر قبل صدور ديوانه فكان ظهوره أقرب إلى المفاجأة في الأوساط الأدبية، ومن العجيب أنهما بعد ظهور الديوانين انصرفا عن الشعر الغنائي، فاتجه عزيز أباظة إلى الشعر المسرحي، وهجر صدقي الشعر نهائياً إلى النثر».
وينفي الدكتور إيهاب النجدي هذا الزعم، قائلاً: «ولكن الحقيقة التاريخية غير ذلك، فشعر «من وحي المرأة» من الصعب أن يكون أول شعره، فالتمرس بالنظم والمعالجة الشديدة لطرائقه، هما السبيل المنطقي لوجود مثل هذا الشعر الرصين، المستوفي لشروط الفن الجيد، كم أنه لم يهجر كتابة الشعر نهائياً بعد ديوانه الأول، فأصدر بعده «حواء والشاعر»، وظل يكتب الشعر وينشره في الدوريات الأدبية إلى آخر حياته».
هذا الديوان:
عاش الدكتور إيهاب النجدي - جامع ومحقق النتاج الشعري لعبد الرحمن صدقي- طويلاً حينما أعد عنه أطروحته للماجستير وحصل عليها من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1997، ونشرها تحت عنوان «الوتر والذكرى- دراسة في شعر عبد الرحمن صدقي»، فعرف الكثير عن أسرار حياته، ومنجزه الشعري والفكري، وأراد أن يضم شعره في صعيد واحد، فجمع كل الإنتاج الشعري له، الديوان الأول «من وحي المرأة»، والديوان الثاني «حواء والشاعر»، كما يضم مجموعة «أشعار لم تنشر في ديوانيه»، ومجموعة «من أوراق الشاعر»، وأدرجها جميعاً تحت عنوان «ديوان عبد الرحمن صدقي»، وبهذا يكون الإصدار جامعاً للمرة الأولى للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر.
وقد أمضى الدكتور إيهاب النجدي في جمع هذا الديوان سنوات طوالاً، قرأ فيه كل إنتاجه منذ بدأ الكتابة في العشرينيات من القرن الماضي، وحتى وفاته عام 1973، أي رحلة امتدت لنصف قرن من الزمان.. رجع فيها إلى كتبه المنشورة ودواوينه أيضاً، بل أعاد جمع القصائد المنشورة فيهما، سعياً نحو التدقيق، والمراجعة والموازنة، وملتمساً للزيادات والفروق، ثم اعتمد الصيغة النهائية التي ارتضاها الشاعر، وتتلخص خطوات عمله في هذا الديوان في التالي:
- الوقوف على الطبعات الثلاث للديوان الأول «من وحي المرأة» واعتماد الطبعة الأخيرة الصادرة عام 1965، مصدراً رئيسياً لقصائده، واعتماد الصيغة الأخيرة لقصائد ديوان «حواء والشاعر»، كما وردت في طبعته الوحيدة الصادرة عام 1965.
- توثيق النصوص الشعرية والمقدمات والتعقيبات، والرسائل المتبادلة، حسب الترتيب التاريخي، عندما تتعدد النشرات، وهي خطوة ذات دلالة ثقافية مهمة.
- المطابقة بين النصوص الشعرية في نشراتها المتعددة، وإثبات تنقيحات الشاعر وتعديلاته، والتنقيح والتهذيب والتثقيف سمات بارزة، ومتأصلة في عملية الإبداع الشعري لدى صدقي.
- إضافة مجموعة «أشعار لم تنشر في ديوانيه»، وتحتوي على ثمانية وثلاثين نصاً شعرياً، ومجموعة «من أوراق الشاعر» وتحتوي على اثني عشر نصاً شعرياً، تنشر للمرة الأولى، والمجموعتان معاً تحتويان على خمسين قصيدة ومقطوعة شعرية.
- تحديد البحور الشعرية للقصائد والمقطوعات وتذييل العناوين بها.
- الإبقاء على الهوامش الشارحة، والإشارات التوضيحية التي حرص عليها الشاعر على وجودها في كثير من قصائده.
- إضافة هوامش جديدة، وتعليقات توضح مناسبة، أو معنى كلمة صعبة، أو استخداماً لغوياً لافتاً، أو ملاحظة عروضية، دون إسهاب يعوق تدفق القراءة لدى القارئ.
- الإبقاء على وحدة الديوانين «من وحي المرأة»، و»حواء والشاعر» من حيث التبويب والترتيب؛ لأن لكل منهما بناءً فنياً وموضوعياً خاصاً، قصيدة الشاعر ورعاه بنفسه؛ لذا لم يكن صالحاً إعادة ترتيب قصائدهما أو تبويبهما حسب التاريخ أو القافية.
- أما مجموعة «أشعار لم تنشر في ديوانيه»، فقد انفردت بالترتيب التاريخي المتاح، وهو تاريخ النشر وليس النظم.
النقد الذاتي عند عبد الرحمن صدقي:
تناول الدكتور إيهاب النجدي - جامع الديوان ومحققه- قضية تنقيح الشاعر لشعره ومعاودة النظر فيه مراراً، بالحذف والتغيير والتبديل، ولتهذيبه وصقله بعد الفراغ من نظمه وهو باب من باب النقد يمكن تسميته «النقد الذاتي»، يمارسه الشاعر بنفسه، فيراجع شعره من آنٍ لآخر، مع اتساع خبراته وتعدد قراءاته، وتطور فهمه للشعر وصناعته.. ويمثل هذا التنقيح خطوة مفيدة في طريق التعرف على عملية الإبداع عند الشاعر، وإن بقيت مسودات القصائد أشد المصادر خصوبة في هذا السبيل، وهي بتعبير مصطفى سويف «كنز من المعرفة عن عملية الإبداع».
والتنقيح ليس بدعاً في أدبنا المعاصر وقد عمد الشعراء القدماء إلى تنقيح قصائدهم أمثال: زهير بن أبي سلمى والحطيئة، في الأدب الحديث وجدنا الشعراء أمثال: خليل مطران، وأحمد رامي، والعقاد.
وقد آمن عبد الرحمن صدقي بالتنقيح وفيه ينشد التجويد في إبداعه الشعري، وهو يرى أن التنقيح عمل إيجابي فيقول في معرض تحليله لشخصية الشاعر الفرنسي (بودلير) في كتابه عنه: «أما الإيجابية فحسبنا أن نرجع إلى أصول منظوماته وما أدخله المرة بعد الأخرى من التنقيح والتهذيب، شأن المتنطس لا شأن الموسوس، فإنك ترى اللمسات التي تزيد القالب حسناً والمعنى صدقاً، فإن البيت من الأبيات بعدها أطبع وأصنع».
وقد قام محقق الديوان بتحقيق الفروق بين مختلف نشرات القصائد والدواوين، فتجمعت لديه جملة كبيرة من هذه الفروق، أظهرت كثرة التنقيح بالتغيير والتعديل، وقلته بالحذف.
ومن أمثلة التنقيح بالحذف في قصيدة «طريقي» ص 52-1965، قام الشاعر عبد الرحمن صدقي بحذف البيت السابع، وهو في ط1945:
وجوك خناق أجاهد ثقله
بأنفاس مضغوط الضلوع خنيق
ويقول جامع الديوان عن هذا الحذف: «وقد كان الشاعر موفقاً في هذا الحذف، فالبيت بما يحمل من معاني ضيق النفس وثقل الأشياء عليها، وتكرار لمعنى البيت السابق عليه، والذي يقول فيه:
نهارك معبر وشمسك سمجة
كأن شروقاً فيك غير شروق
ثم ضرب أمثلة أخرى...
ومن التنقيح بالتغيير، وهذا النوع من التنقيح يكثر في شعر صدقي بشكل واضح، إذ يشمل معظم قصائد الديوان الأول، وجزءاً ليس بالقليل من قصائد الديوان الثاني، ففي قصيدة «الواقعة» وهو الاسم الأخير الذي استقر عليه بعد أن كان «مرضها الأخير»، والقصيدة تصور اللحظات الأخيرة من حياة الزوجة مع المرض والألم، ولهفة الزوج المسكين عليها، ثم الهول الذي أصابه بفقدها، والأبيات الثلاثة الأولى كانت هكذا (عام 1945):
أتى العام فاستبشرت بالعام يطرق
وقلنا هذا العام السعيد الموفق
فلم يمض بعض الشهر إلا وآذنت
غواشي نذير كالغياهب تطبق
ألمت بزوجي فيه حمى خبيثة
تقض وسادينا معاً وتؤرق
فجعلها بعد التنقيح (1965)
أتى العام فاستبشرت بالعام يطرق
وقلت كما قالت: سعيد موفق
فلم يمض بعض الشهر إلا تبادرت
غواشي نذير كالغياهب تطبق
ألمت بها الحمى عضالا ملحة
تقض وسادينا معاً ونؤرق
وقد وفق جامع الديوان الدكتور إيهاب النجدي في دراسة الآثار الشعرية للشاعر والمفكر والناقد عبد الرحمن صدقي بأن جمع أعماله الشعرية الكاملة في الكتاب، وذلك لأول مرة في المكتبة العربية، وقام أيضاً بدراسة وافية عن حياته وعن خصائص شعره، وفند الأقوال التي أذيعت واشتهرت حيناً من الدهر أن ربة الشعر قد غزته وهو في منتصف العقد الخامس من حياته بعد نشره لديوانه الضخم «من وحي المرأة»؛ وهو رثاء لزوجته الإيطالية (ماري)، وأثبت الدكتور النجدي أنه كتب الشعر في بدايات حياته.
وكان صدقي من الشجاعة بمكان بأن طرق هذا النمط (رثاء الزوجة) من الكتابة الشعرية، وقد سبقه بسنتين عزيز أباظة في ديوانه «أنات حائرة»، فلم نَرَ قبل هذا التاريخ أن شاعراً عربياً اختص زوجته بديوان كامل من شعره يقدمه تذكاراً لأيام سعيدة، وأكثر المراثي في الأدب العربي من الرجال؛ اللهم إلا مراثي الخنساء لأخويها صخر ومعاوية وأولادها الأربعة، كما أن رثاء الرجال للنساء قليل في الأدب العربي، ولعله كما يقول الأستاذ محمد عبد الغني حسن محمول على المحافظة على صيانة المرأة وبعدها أن يكون اسمها مضغة في الأفواه، وسيرة على الألسنة، وليس في ذلك مناقضة لورود المرأة في شعر الغزل؛ فإن المرأة موضوع الغزل ليس محرماً للرجل وليست من أهله، ولا يعيب الرجل أن يتحدث عنها، أما الزوجة المرثية، فهي لزوجها أهل وأم أبناء، فيجد من الحرج أن يذكرها في شعره ولو كان في ذلك مقام الرثاء وموضع البكاء.
** **
- كاتب ومؤرخ مصري