الثقافية - علي القحطاني:
تعد مدينة العلا من أقدم المدن في التاريخ كونها تضم العديد من الآثار والحضارات القديمة وتحوى كنوزاً هائلة من الآثار والنقوش وهي محلّ متابعة من القيادة الرشيدة وتوجيهات سمو الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد –حفظه الله- الذي يرأس مجلس إدارة الهيئة الملكية لمحافظة العُلا وأُطلقت «رؤية العُلا»، التي تهدف إلى تطوير المحافظة وتحويلها إلى وجهة عالمية للتراث مع الحفاظ على طبيعة وثقافة المنطقة بالتعاون مع فريق من الخبراء العالميين وذلك ضمن رؤية 2030؛ لتستطيع استقبال أكثر من مليون سائح سنويًا بحلول عام 2023م.
واستضافت «الثقافية» الدكتور مشلح بن كميح المريخي أستاذ الكتابات الاسلامية بقسم الآثار والمتاحف بكلية الآثار جامعة الملك سعود، للحديث عما تكتنزه مدينة «العلا» من آثار ونقوش التي تبيّن من خلال دراستها أنها الأصل لمولد الحرف العربي ونشأة الخطّ العربي والدكتور المريخي حصل على درجة الدكتوراه من جامعة مانشستر، وهو عضو في عدد من الجمعيات العلمية المحلية والعربية والدولية، وله أبحاث ومؤلفات في الخط العربي والكتابات الاسلامية والبرديات وقد شارك مؤخرا بورقة عن الآثار في منطقة العلا.
نشأة الخطّ العربي
* كثرت الأقاويل العلمية في نشأة الخط العربي.. ما الصحيح في ذلك؟
- قبل نصف قرن كانت الكتابة تحت هذا العنوان توجب على من يتصدى لها أن يتعرض بالنقاش أولا للآراء والنظريات التي تناولت نشأة الخط العربي وجلها كانت تبدو منطقية لا سيما مع ندرة الأمثلة المادية التي يمكن التعويل عليها لإثبات أو نفي أيا منها.
ولكن اكتشاف أعداد هائلة من الكتابات والنقوش المسجلة بالخط النبطي وتحليلها حسم وبشكل نهائي حقيقة أن الخط العربي الذي نعرفه اليوم قد نشأ استقلالا عن الخط الذي اتخذه الأنباط العرب لكتابة لغتهم «العربية»، فالخط العربي هو وليد تطور استغرق عدة قرون لينفصل عن حاضنته النبطية.
ومن ثم فسنضرب صفحا عن تفنيد نظريات مثل التوقيف أي أن الخط العربي هو وقف من الله عز وجل وليس من صنع البشر أو نسبة هذا الخط لأصول جنوبية مسندية أو شمالية سريانية فقد باتت كل تلك الآراء والنظريات افتراضات تجافيها الاكتشافات العلمية.
والحقيقة أن هذا الاعتقاد الذي يدافع عنه البعض إلى يومنا هذا كان تعبيرا منطقيا عن حصاد البحث والتنقيب الأثري في تلك المناطق التي شملتها تحركات الرحالة والآثاريين الأوربيين منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي.
اكتمال بناء الخطّ العربي
* يقال إن أساس الخط العربي كان من اكتشافات من حواضر الأنباط في مدائن صالح بالمملكة العربية السعودية..؟
- الاهتمام المتصاعد باستكشاف مناطق المملكة العربية السعودية سواء على يدي رعيل أول من رحالة وعلماء أوربيين أو بفضل جهود الرواد الأوائل من الكتاب ثم العلماء الوطنيين بل زد على ذلك حب الاستطلاع الذي حمل شبانا وكهولا لارتقاء واعر الجبال وارتياد موحش القفار للبحث عن جذور الهوية الوطنية واسهامات الأجداد في رفدها بشخصيتها المتفردة قد كشفت جهود هؤلاء جميعا عن نقوش وكتابات ورسوم غيرت كليا من النظريات والآراء التي بقيت صامدة لقرابة القرن سواء عن أصل الخط العربي أو حتى الأقلام الأخرى التي كتبت بها لغة العرب في العصور الغابرة، ومن نوافل القول إن نشير بداية إلى أن الخط العربي وفقا للدراسات العلمية المنشورة عن أدلة مادية ووفقا لقواعد بالبيوغرافية قد اشتق من القلم النبطي.
وهذا الاشتقاق استغرق عدة قرون بدءا من القرنين الأول والثاني للميلاد وذلك استنادا إلى المعطيات الكتابية للبرديات والنقوش النبطية خلال هذين القرنين حيث بدأت الكتابة النبطية تنحو باتجاهين رئيسيين حافظ أولهما على السمات والخصائص النمطية للحروف النبطية المعروفة وصولا للقرن الرابع الميلادي أما الاتجاه الثاني فأخذ مسارا تحورت فيه الأحرف لتقترب من هيئة الحروف العربية وذلك في رحلة ديناميكية استغرقت قرابة الخمسة قرون إلى أن اكتمل النظام الكتابي العربي المستقل مكتمل الطابع والهوية مع مطلع القرن السادس الميلادي.
النقوش الأخيرة تجمع بينها سمة الكتابة العربية بأحرف عربية صرفة لذا فهي أقرب إلى أن تمثل مرحلة مبكرة ومهمة من الكتابة العربية النمطية متضحة المعالم مستقرة الأسس ويبعد أن تكون تمثيلا لمرحلة مبكرة من نشأة الخط العربي ومن ثم لا يمكن الاستشهاد بها في حسم إشكالية مهد الخط العربي وموطن نشأته بأي حال من الأحوال.
والحقيقة أن الوصول لتلك القناعة يتعزز يوما بعد يوم وبتواتر اكتشاف نقوش عربية من مراحل أقدم تاريخيا تكاد أن تتركز في شمال وشمال غرب المملكة العربية السعودية حسب ما هو معروف منها الآن دون استبعاد ظهورها في أماكن أخرى بالمملكة بأعداد أكبر من تلك التي نعرفها اليوم. وهذه النقوش الأخيرة تجمع بينها سمة الكتابة العربية بأحرف عربية صرفة لذا فهي أقرب إلى أن تمثل مرحلة مبكرة ومهمة من الكتابة العربية النمطية متضحة المعالم مستقرة الأسس ويبعد أن تكون تمثيلا لمرحلة مبكرة من نشأة الخط العربي ومن ثم لا يمكن الاستشهاد بها في حسم إشكالية مهد الخط العربي وموطن نشأته بأي حال من الأحوال.
والحقيقة أن الوصول لتلك القناعة يتعزز يوما بعد يوم وبتواتر اكتشاف نقوش عربية من مراحل أقدم تاريخيا تكاد أن تتركز في شمال وشمال غرب المملكة العربية السعودية حسب ما هو معروف منها الآن دون استبعاد ظهورها في أماكن أخرى بالمملكة بأعداد أكبر من تلك التي نعرفها اليوم.
أهم النقوش
* ما هي أهم النقوش التي اكتشف عنها في موقع الحجر (مدائن صالح)؟
- ومن أهم هذه النقوش التي كشف عنها في فترات أحدث من اكتشاف النقوش السامية الستة:
1 – نقش «رقوش: الذي عثر عليه في موقع الحجر (مدائن صالح) ويؤرخ هذا النقش بعام 267 م وهو ما يضعه في نفس الفترة الزمنية لنقش «أم الجمال الأول» أقدم النقوش الشامية.
(2) نقش «المابيات» وقد كشفت عنه حفائر قسم الآثار بكلية السياحة والآثار- جامعة الملك سعود بموقع قرح الإسلامي (المابيات) في الموسم الثاني للحفائر (1426هـ / 2005م) وهذا النقش يعود تاريخه إلى عام 280م.
وتظهر الدراسة الخطية لهذين النقشين وسمات حروفهما أنهما ورغم قربهما التاريخي من نقشي «أم الجمال الأول» و»النمارة» إلا أن سمات تطور واضحة تبدو أكثر جلاء في أحرف نقشي العلا عن أحرف النقشين الشاميين.
ولهذا النقش الأخير أهمية بالغة في مسار البحث العلمي عن الموطن الأكثر احتمالا لنشأة الخط العربي ليس فقط لأنه ثاني أقدم نقش مؤكد التاريخ (من بعد رقوش) ولكن قبل ذلك وبعده لأنه يقدم معطيات علمية جديدة لعل أهمها تلك الظواهر الخطية الباليوغرافية حيث تعد حروف هذا النقش متطورة جدا مقارنة بالنصوص العربية الأخرى سواء المعاصرة له من خارج محافظة العلا أو تلك المتأخرة عنه زمنيا.
وحروف نقش المابيات أقرب إلى الصبغة العربية منها عن بقية النقوش الأخرى وخاصة ما نراه من تطور في كتابة الحروف التالية: الألف والتاء / الثاء والسين / الشين والعين / الغين والفاء / القاف والكاف والميم والنون والهاء والواو والياء.
النقوش المبكرة
* ماذا عن مجموعة النقوش المبكرة التي عُثر عليها في شمال غرب المملكة خصوصا في منطقة العلا.. وهل تدلّ تلك الآثار على نشأة الخط العربي؟
- إذا ما أضفنا لذلك العثور مؤخرا على مجموعة نقوش مبكرة في شمال وشمال غرب المملكة العربية السعودية بل وجنوبها تجري دراستها حاليا فإنه من المقدر أن تحسم دراستها أمر موطن نشأة الخط العربي مع الأخذ في الاعتبار أن كافة النقوش بما فيها النقوش الشامية هي كلها لعناصر عربية ظعنت أو مرت بجنوب بلاد الشام بوجه خاص مما يؤكد أن العرب اتخذوا هذا الخط تطورا من القلم النبطي وصاروا يكتبون به أينما حلوا أو ارتحلوا في مراحل تطور تزداد معارفنا بها وضوحا على ضوء الاكتشافات الجديدة التي تتركز في شمال غرب المملكة العربية السعودية وتتناثر في أماكن أخرى أيضا.
النتائج والتوصيات
*دراستك التي قدّمتها حول الآثار في منطقة العلا توصلت إلى أن غالبية النقوش العربية القديمة توجد في المملكة وهذا ما يدلّ على حرص وزارة الثقافة ممثلة في وزيرها الأمير بدر بن عبدالله آل سعود في إنشائها هيئة المتاحف للاهتمام بالآثار وتاريخ المملكة، ما هي التوصيات والنتائج الذي توصلت إليها؟
- من شأن ذلك تعزيز مكانة المملكة العربية السعودية التي كانت تمتلك حتى الأن ما يربو على 80 في المائة من النقوش العربية المبكرة التي تعود للفترة ما بين منتصف القرن الـ3 م ونهاية القرن الـ6 م كموطن محتمل لنشأة وتطور الخط العربي.
يتضح مما سبق عدة مسلمات واستنتاجات منطقية نوجزها فيما يأتي:
1. إن ولادة الحرف العربي، في ضوء الأدلة المتوافرة حاليًا، كانت في القرنين الأول والثاني الميلاديين، وربما قبل ذلك بقليل.
2. إن الكتابة العربية قد شهدت مراحل متوالية من التطور عبر رحلة امتدت خلال القرون من الثالث إلى الخامس الميلاديين.
3. إن استقرار سمات الحرف العربي وخصائصه جاء مع القرن السادس الميلادي. وبالتالي فهي تمثل النقوش الشامية الأربعة المؤرخة من هذا القرن (السادس الميلادي)، وهي نقوش: «زيد» (من عام 512هـ)، و»جبل أسيس» (من عام 528م)، و»حرّان» (من عام 568م)، و»أم الجمال الثاني» (من القرن السادس الميلادي)، مرحلة مبكرة ومهمة من الكتابة العربية النمطية متضحة المعالم مستقرة الأسس والشخصية، لذا لا يمكن عدها حلقات ضمن إطار مرحلة تطور الخط العربي.
4. إن النقوش الخمسة المتبقية، والتي هي بالفعل شواهد حقيقية على تطور الخط العربي، وهي نقوش «أم الجمال الأول» (يؤرخ خلال الفترة من 250م - 270م)، و»النمّارة» (من عام 328م)، و»رقّوش» (من عام 267م)، و»وائل بن الجزاز» (من عام 410م)، ثم أخيرًا «نقش المابيات» (من عام 280م) ترجع جميعها إلى الفترة الممتدة من القرن الثالث إلى بداية القرن الخامس الميلاديين.
5. إن اثنين من هذه النقوش الخمسة التي تمثل مرحلة التطور الفعلي للحرف العربي، منها اثنان فقط شامية، ومن مواقع مختلفة، بينما غالبيتها، وهي النقوش الثلاثة الأخرى، قد عثر عليها في منقطة واحدة فقط، هي «العلا» في شمال غربي المملكة العربية السعودية.
6. إن نقوش منطقة «العلا» الثلاثة، بوجه عام، ولا سيما «نقش المابيات» بوجه خاص، تظهر تطورًا أكبر واتضاحًا أكثر لأشكال كثير من الأحرف العربية مقارنة بالنصوص الشامية المعاصرة لها.
7. وهكذا تتبلور من كل ما سبق حقيقتان مجردتان، أولاهما: امتلاك منطقة واحدة هي «العلا» وحدها لما مجموعة 80 في المائة مما كشف عنه من مادة النقوش العربية التي تشكل زاد الباحثين المتخصصين في نشأة الحرف العربي في وقتنا الحاضر، وثانيهما: ان المعطيات الباليوجرافية والسمات الخطية لهذه النقوش الثلاثة تحديدًا أكثر دلالة من غيرها على مجريات الحركة السريعة والطبيعة الديناميكية لهذا التطور.
8. وهكذا إذا استبعدنا عامل المصادفة الذي قد لا يكون له وجود في هذه الحالة نجد محافظة «العلا» بشمال غربي المملكة العربية السعودية هي المتصدرة للمواقع لتكون «مهدًا» منطقيًا لـ «نشأة» الحرف العربي من الحرف النبطي، وليس من قبيل المصادفة إن كانت الحِجْر/ مدائن صالح، وهي إحدى أعمال «العلا»، الحاضرة الجنوبية للأنباط قد عايشت أغلب مراحل إنجازاتهم الحضارية وعطاءاتهم الثقافية.
9. إذا كان مكان الولادة أولى بالعناية، فقياسًا على ذلك فإن مكان النشأة أولى باقتفاء مراحل التطور بين جنباته، وبالتالي كان لا مناص من أن تظهر في نقوش «العلا» الثلاثة سمات التطور في الحرف العربي أكثر من غيرها.
10. يبدو الأمر منطقيًا جدًا حيث الحديث عن احتمالية النظر إلى أرض المملكة العربية السعودية مهداً للكتابة العربية، فاحتمال الصدف هنا غير وارد، إذ لا بد لها من مقدمات ونتائج، وربوع الجزيرة العربية هي موطن فصاحة العرب، التي عبّر عنها الشعر الجاهلي وصولاً إلى المعلقات، كما أن قدر الله الذي تنتظم به حركة الكون كله لا يستبعد معه، والله أعلى وأعلم، أن تشهد الأرض التي بُعث فيها النبي الأمي «مهد» الكتابة العربية، حيث نزل عليه الوحي عربيًا، وكان أول ما نزل منه الإشارة إلى القراءة والتعلّم بالقلم.
11. نوصي بإعادة دراسة البرديات والنقوش الصخرية النبطية العائدة إلى القرنين الأول والثاني الميلاديين، وكذلك العمل على زيادة المسوحات والتنقيبات الأثرية الميدانية في محافظة «العلا» للبحث عن نقوش عربية أخرى قد تضيف إلى معارفنا المزيد عن نشأة الخط العربي وتطوره.
** **
@ali_s_alq