د. شاهر النهاري
كتبت في جريدة الشرق الأوسط، الأربعاء 28 صفر 1422 هـ 23 مايو 2001 العدد 8212 موضوعاً بعنوان «هل تصبح الأسماء جزءاً من التراث..؟».
وقد كان الموضوع حينها غريباً على تخيل من قرأه وهم يدركون ويعيشون قيمة الاسم.
وأذكر أن النقاش بين الأحبة والأصدقاء كان محتداً متبايناً بين من فرد للمستقبل سجادة حمراء، ومن أغلق الأبواب بالرزة، وشكك في تطلعاتي، باضمحلال قيمة الاسم، وأن تصبح حياة الشخص مجرد أرقام لها الأهمية، والأولوية والسرية، والكينونة.
وقد كانت الأحوال حينها دقة قديمة، لا إنترنت فاعل، ولا تواصل رقمي بين الشخص، وحكومته وأعماله الخاصة بواسطة الأرقام، التي طغت في حياتنا بعدها، مرتبطة بالجنين منذ ولادته، وحتى تنطفئ شمعة علاقته بحياته التي قد تتخطى اسمه.
الإنسان الحالي بقايا اسم يخضع للتحكم الإلكتروني في كل خطوات حياته، فلا يمكنه التعامل مع الشارع أو المتجر، أو مراعاة مخزونه، وحركة ماله، أو مخصصاته وممتلكاته بالاسم، بينما حل عنها أرقام ورموز يحضر متى حضرت، وينتفي بغيابها.
وعند رحيل الفرد يتجمد كل ما كان حياً في حياته من أرقام، سواء في التعامل مع إرثه أو ديونه، أو حقوقه وممتلكاته بعد أن تتجمد أرقامه مركزياً.
الرحيل اليوم ينفي وجود الاسم ويشدد على حياة الأرقام، التي ظل يحملها طوال حياته، وكان يخفي السري منها، لكيلا يستغلها سواه.
الاسم مجرد تراث يبنى على مسميات ورثها الشخص، أحبها أو أجبر عليها، وربما حاول تزيينها، أو استبدالها بأسماء وألقاب كان يفضلها، فهو ابن فلان، وأبو علتان، وهو من يحمل من صفات الشهرة الأسمى، والأكرم، والأشجع، والأبرز، وقد يكون له اسمٌ فنيٌّ مصاحبٌ، وكل ذلك لم يعد مفيداً في كينونته بالمطلق، وما يتم الاعتماد عليه جذرياً هو فقط أرقامه ورموزه الحية، التي تثبت أو تنفي وجود شخصه، وتعطيه القدرة والتمكن والأهلية في دنياه قبل العجز أو الغياب.
بالفعل، نحن اليوم نعيش بمفهوم أن الاسم أصبح من التراث، وأن الرقم رغم أهميته، ولكنه أيضاً يكاد يفقد ثباته بكل أغراضه التي تنفي وتثبت، وتستمر كون التقنية تتقدم، متعالية حتى على الأرقام.
تقدم ثبوتي جنائي عجيب، تخطى حتى بصمات الأطراف، فوجدت بصمة قاع العين، وبصمة الصوت، وبصمة العرق، والشعر، وعظام الوجه، والحمض النووي، ورقميات وكروت مشفرة دخلت حياتنا لمزيد معرفة وتثبت، بتواجدنا في العمل، أو في المجال الصوتي، أو على الإنترنت، أو حتى بتنقلنا بين البلدان، حاملين معنا رقميات، وبرمجيات وتطبيقات لا يمكن أن نثبت صحتنا أو مكان وجودنا وصلاحياتنا دونها.
التقنية المدهشة، أصبحت كينونة العصر الجامح، وهي التي تُجبر حتى الجاهل، أو كبير السن على العودة للتعلم وحفظ كيفية استخدام أرقامه وبرمجياته، وما يستجد من تحديثات ليكمل مشوار حياته في عصر تقنية متجددة، فلا شيء يبقى كما كان، ولا مجهول يمر دون بحث وتقصٍّ، والذي لم يعد يحتاج للأوقات الطويلة، فمجرد ضغطة زر أو وقوف أمام آلات الذكاء الاصطناعي تؤكد على أهليته ومعطياته وصولاً لدرجة حرارته، وتجعل الشخص يعيش بحريته، ويتمتع بممتلكاته، ومجرد سقوطها من ذاكرة بطيئة، أو ناقصة، يجعله في مأزق مهما صرخ باسمه وردد أرقامه، التي لم تعد تحقق كامل قياده وحريته، وتصرفه، وكينونته.
وعند العجز يتم تجيير الرقمية لشخص قريب يأتمنه الناسي، وحتى يكمل بجواره بقايا رحلة تَحَكُمه، بأرقام سرية، وبرمجيات، لسحب وقبض، وبيع وشراء، وهبات ووكالات، ومطالبات، يتم تحويل قدرة التحكم فيها لحافظة المؤتمن، بشروط، ولأوقات محددة تسبق رحيلاً لا بد منه.
الدنيا قمة التسارع، ورغم أهمية الأرقام جزئياً، إلا أن التقنية العجيبة تزداد ترقياً، وذكاءً، ففي كل يوم نسمع عن جديد، وتطبيقات مدهشة معجزة، للتعريف بالأشخاص مهما زاد البعد وكثر الزحام، وعبر رقميات ذكية، وقبل وصولنا للبصمة الوراثية الجينية، والتي تعتبر اليوم ضرورة ودليل ثقة ووضوحاً تاماً حتى لمن رحل، بالتعرف على كينونته من خلال حمضه النووي، وتأكيد قربه من أشخاص أو بعده عنهم، وحتى لو استخدموا كل أسمائه وأرقامه، التي يبدو أنها رغم أهميتها، تنزاح عن مكانتها سواء في المحاكم، أو في النزاعات الجنائية إثبات الأبوة والبنوة، أو مختلف ما يستجد من قضايا كانت تحكم بالاسم والشهود، وتتشبث بالرقم وبصمة اليد، ولكنها اليوم برقميتها وتقنيتها، تكشف كل مدّع، وتناصر كل مُنكر محروم من وجوده.
تسارع مهول نلهث وراءه في زوايا حياة أشعلتها التقنية، وما يخفى منها حالياً قد يفوق التصور، ومن الصعب أن نجزم بمسار القادم المدهش المريع، فالعمليات التصنيعية تحديات متعاركة مشتعلة متراكبة، والابتكارات العجيبة تتسابق، وتُغرس في شرائح وذرات دقيقة وسط الجسد البشري، ونحن نستمر، وحتى لو استصعبنا الشيء في بداياته، ولكنا سرعان ما نتأقلم، ونندرج تحت حتمية أجنحة المعلوم، سواء بواقع الاضطرار، أو الحث والتعلم، حتى أننا لن نحيط بماهية تحديد كينونة المستقبل لأحفادنا، فالعلم الحاكم يخلق فردانية التواجد القادم، وهو ما يمكن أن يغيرنا أكثر، ويهبنا التأقلم مع ما نستدركه من تطور، ويفتح مخيلاتنا لكل نشوء وارتقاء، وكل اضمحلال لتراث ومعرفة، وتصحيحات مستقبل لا نملك حياله إلا التأقلم والطاعة المستسلمة للآلة الذكية، والمحافظة على بعض الاستمرارية، وسط تحديات عصرية يعطلها ويذبحها الضعف والزهايمر والهِرم، كونها تنذر بالخوف والعزلة والإنكار، وإمكانية تحول الإنسان لكيان مختلف تدخل التقنية على تكوينه وعقله المخترق بزرع مستجدات شرائح التقنيات في بدنه، حتى يدوم التقدم في تنوع الأجناس بنظام البشر المعتاد القديم شكلاً، والإنسان المتحول المدعم بقدرات الرجل الخارق «سوبر مان» والخفاش «بات مان» والقطة «كات ومن» وغيرها من المسوخ التي تفوق الافتراضية، فيكون بيننا من يطير بشكل ذاتي ومن يغوص كالحوت، ودون أدوات، ومن يفكر بسرعة الحاسوب، وباقتدار تذكر أطول، وتنفيذ الصعوبات العضلية والعقلية المستحيلة بقدرة، ويضعف من لا يتطور وينزوي، ويفنى من يفنى، ويستمر المتابع المتنبه للنتائج، والفاعل في حفظ ذاته ومعطياته المتبدلة، وتطويرها، وبلوغ ما يتفتق عنه الفكر البشري الآلي المدمج، ويعجز عن مجاراته الضعيف، ويكثر الانقراض، لمزيد من التوازن، وتسيير حياة تهيمن عليها التقنية كلياً وتكتب سيادة غلبتها، في الأنفس، والأجساد، والفضاء، وجديتها وفاعليتها في تعمير الأرض للمستحقين المتطورين، أو تدميرها لدى المنكمشين، بجنوح رقميات الآلة.