منصور ماجد الذيابي
يهتم الناس في شبه الجزيرة العربية منذ قديم الزمان بموسم هطول الأمطار ويتناقلون أخبار الأحوال الجوية الممطرة فيما بينهم مع دخول فصل الشتاء داعين الله في صلاتهم أن ينزل الغيث عليهم ويسقي البلاد والعباد بما تجود به السماء في موسم المطر الذي ينتظرونه كل عام بشغف شديد حتى أن بعضهم يسمي أبناءه بأسماء المطر مثل « مطر, و غيث, و مزنة, و مزون», نظراً لما للمطر من انعكاسات طيبة على النفس البشرية لا سيما إذا هطلت الأمطار بعد طول غياب واكتست الأرض بمختلف أنواع النباتات البرية وتحوّلت الصحراء إلى مروج خضراء كما أوضحت سابقاً في مقال بعنوان «تحويل الصحراء إلى مروج خضراء».
ولذلك لا تكاد تخلو أحاديث النّاس إلى بعضهم من طلب أخبار المطر أو كما يحلو للبعض منهم أن يقول باللهجة المحلية «عطونا علوم المطر», غير أن مثل هذا الطلب لا يمكن توجيهه إلا لذوي الخبرة أو لمن تتلمذوا على أيدي رجال الصحراء ممن لديهم دراية تامة بأنواع السحب ومواسم المطر ومدى تأثير مياه الأمطار على سطح الأرض بعد أو أثناء سقوطها من السماء الملبّدة بالغيوم وهو ما يسمى عند العارفين بهذه الثقافة المطرية «نذور المطر», أي تلك التّغيرات التي يحدثها المطر وتطرأ على طبيعة الأودية والسهول بعد نزول المطر كما أوضحت أيضاً في مقال سابق بعنوان «مياه الأمطار والأمن المائي في بلادنا».
وهنا أتذكّر عندما كنت شابّاً في مقتبل العمر حينما فاجأني أحد كبار السّن بينما كنت في زيارة لإحدى المناطق الريفية غرب الجزيرة العربية, طالباً منّي أن أخبره بـ «علوم المطر» الذي انهمر قبل ساعات قليلة من وصولي لهذه الدّيار حيث يهتم أبناء البادية بأخبار الأمطار واتجاه السّحب الرّكامية ومدى ارتواء الأرض بمياه الأمطار, وهو السؤال الذي لا يمكن للجيل أو البيئة التي أنتمي إليها أن يجيب عليه بأسلوب مقنع للسائل, و بطريقة احترافية تتضمّن الكثير من التفاصيل الدّقيقة, وبنفس مصطلحات اللهجة المحلية لهؤلاء الرجال الذين بلغوا من العمر عتيّاً وعاشوا عقوداً طويلة من حياتهم في الترحال والبحث عن أماكن سقوط الأمطار في الصّحاري والقفار الواسعة.
في مثل هذا الموقف شعرتُ بنوع من الحرج اعتقاداً بأنني لن أتمكّن من الإجابة على تساؤل الرّجل المُسنّ الذي بدى مُتلهفاً لسماع أخبار المطر أو «علوم المطر» كما هو متعارف عليه في قاموس مصطلحات المطر الخاص بهم. فقد جاءت إجابتي مقتضبة وسريعة ومُضلّلة نوعاً ما بهدف الخروج سالماً من هذا المأزق خشية التعرّض لانتقاد الرجال المحيطين به. وبرغم محاولتي تقمّص أسلوب العارفين بسرد أخبار المطر وبنفس اللغة الدّارجة التي يفهمها جيل الزمن الجميل, إلا أن الإجابة لم تعجب الرجل الكبير كما ولم تعجب الجالسين من حوله ممن يعلمون تماماً خفايا الأمطار وأسرارها وطقوس الصحراء وأسماء النباتات البرية فيها, حيث أبدى جميعهم دهشتهم واستياءهم للأسلوب الذي تحدثت به وكأنّما جئت إليهم من كوكب آخر وخاطبتهم بلغة لا يفهمونها.
وقد يكون من المناسب أن أوضح للقرّاء بعضاً من أسماء المطر عند أهل الجزيرة العربية, ومنها على سبيل المثال «الرّذاذ», وهو مطر خفيف جداً يتساقط على هيئة قطرات صغيرة تشبه الغبار, وكذلك «الرّشاش», وهو ما يدفن الأثر أو يدفن الجرّة كما يقال في اللهجة العامية, ويقال «الرشاش» أيضاً على بداية المطر قبل أن يصبح وابلاً.
وهناك أسماء أخرى تدل على قوة المطر وغزارته ومنها «الغشنة», والمقصود بها المطر السريع الذي يجعل الماء يستقر على سطح الأرض لغزارته, ثم «السيل» الذي تسيل على أثره الأودية والشعاب. ومن أسماء المطر الدّالة على هطوله بكثافة ما يسمى بـ «القشع», وهو أقل كمّا من السيل, ويقال عندما تسيل بطون الأودية الكبيرة ويجرف في طريقه الأشجار والنباتات.
ولعل من أهم أسماء المطر المتداولة في شبه الجزيرة العربية هو اسم «الوسم» أي ما يأسم الأرض ويشكّل بحيرات مائية صغيرة دون جريان الماء على سطح الأرض. و أخيراً هناك ما يعرف بـ «الشخط, أو الشّخوط», وهو المطر الذي يضرب جزءاً صغيراً وليس أجزاء واسعة من الأرض.
ومن المعروف أن المطر يثير قرائح الشعراء لوصف الحالة الإنسانية العاطفية تجاه المطر. وممّا قاله الشاعر الكبير ماجد بن سفر الذيابي عندما طال به الغياب عن دياره وجاء إليه من يخبره بأن قومه قرّروا الرّحيل عن ديارهم بحثاً عن المطر في أماكن بعيدة هطلت عليها الأمطار وأينعت أرضها بالنّباتات في فصل الربيع, فقال هذه الأبيات للتعبير عن عدم رضاه بقرار الرّحيل:
يا مثيب هات العلم يا مثيب هاته
هات العلوم وقصّها بالتفاصيل
عطنا ثبات العلم عطنا ثباته
عن ربعنا اللي فيّهوا بالمحاويل
يبون دارٍ لا سقى الله حصاته
عساه ما تمطر عليه الهماليل
الى أن قال:
عسى الحَيَا يسقي كشب وطلحاته
ويضفي على الشبرم وهاك المصاقيل
وفي طلب نزول المطر على الدّيار أقول:
سقى الله أمّ الدّوم والبيداء حولها
بماءٍ زُلالٍ من المُزنِ ينسابُ