د. عبدالحق عزوزي
انطلقت بمدينة فاس أشغال المنتدى العالمي التاسع للأمم المتحدة لتحالف الحضارات... ويهدف هذا المنتدى إلى تعزيز الحوار والتعاون بين مختلف المجتمعات والثقافات والحضارات، وذلك بمشاركة ثلة من الشخصيات البارزة من بينها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
في ورقتي قلت إن المجتمعات في ظل تنامي العولمة تتقاسمها مخاوف متشابهة ومتبانية، وتسعى جاهدة لإعمال كل طاقاتها القانونية والمؤسساتية لمعالجتها أو لاستباقها. فمن هجرة منظمة وسرية من دول الجنوب إلى دول الشمال، وكل التداعيات الأمنية التي تطرحها في دول الاستقبال والأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي دعت إلى ذلك في دول الجنوب، إلى إرهاب عابر للقارات والحدود، مرورا بالصراعات والحروب، كلها عوامل غذت جذور اللاتفاهم والتنافر بين الشعوب والأمم وأضحت تنمي أغصان الكراهية والشنآن وتولد نظريات التشاؤم والمخاوف المتتالية.
ولكن مع ذلك فنظريات «صدام الحضارات» و»حرب الثقافات» هي خطابات خاطئة ومغرضة تنبني على سجن الأفراد والجماعات في انتماءاتهم وهوياتهم الثقافية والحضارية، فلا يعقل أن تنمو وتتطور حضارة من الحضارات في معزل عن مكونات الحضارات والثقافات الأخرى، فالحضارة الغربية استفادت من الحضارة العربية الإسلامية كما أن الحضارة الإسلامية حققت انطلاقاتها وحققت ثقافة النحل في الإنتاج والإبداع بتلاقحها وتمازجها مع الحضارات الفارسية والبيزنطية السابقة والمعاصرة لها.
ومن أسباب خلق الخلق اختلافهم، ولا يمكن الاستشهاد بهذه الرؤية المرجعية الكبرى وعدم الاتفاق حول الجوامع المشتركة، فهما عاملان لمعادلة توازنية واحدة، إذ كيف يمكن الإيمان بحقيقة الاختلاف الإنساني دون التفاهم حول الجوامع المشتركة، فالاختلاف قدر محتوم، والهدف من ذلك هو التعارف والتآلف؛ وتذكرنا هنا العقول النيرة التي تزخر بها الديانات أن المشاكل مشتركة فيما بيننا، وأن المعرفة الجيدة بالآخرين يؤدي إلى إرساء احترام الاختلافات والمحافظة على القيم. ويغدو، في ظل هذه الظروف، الحوار البناء والطموح بين الحضارات حاجة ماسة وضرورة حيوية يتوقف عليها بشكل أساسي مستقبلنا.
كما أن المشكل في الأخير ليس في الحوار الإسلامي -المسيحي أو الإسلامي- اليهودي أو الإسلامي -المسيحي-اليهودي حصرا، ولكن الحوار هو أعم من ذلك وأشمل، إذ يقتضي الكليات والجزئيات في الدين والسياسة والاقتصاد والثقافة والميادين الاجتماعية...
ويجب الجزم هنا بأن هناك حدوداً يجب على العولمة ألا تلغيها. تلكم التخوم التي تمكننا من الانتقال من ثقافة نحو أخرى، وتعلمنا أنه ليس هناك لغة واحدة بل لغات متعددة، وأن كونية الإنسان تتجسد في كل ما هو خاص، وأنه يجب علينا الحفاظ على هذا الغنى كما نحافظ على الممتلكات النفيسة للإنسانية. وليست مناطق الإنسان فقط مادية أو جغرافية، بل إنها أيضا مناطق روحية.... وفي هذه المجالات أيضا يصاغ السلم العالمي ويحدد مصير الأمصار وكذا التسامح بين الناس في عالم تفيد تقديرات شعبة السكان التابعة للأمم المتحدة بأن عدد سكانه تخطى منذ أسبوعين عتبة ثمانية مليارات نسمة؛ وتجاوز هذه العتبة الرمزية يعتبر فرصة للاحتفال بالتنوع والتطوّر مع مراعاة المسؤولية المشتركة للبشرية للعيش في أمن وأمان وسلم وسلام ...
وقلت في ورقتي أيضا، إنه مهما كانت نوعية الحضارة، إفريقية كانت أو إسلامية أو غريبة أو غير ذلك فهي نتاج تلاقح عدة شعوب وأعراق شتى، تنتمي إلى ثقافات متعددة تصب جميعها في اتجاه تتشكل منه الحضارة، فهي إذن لا ترتبط بجنس من الأجناس، ولا تنتمي إلى شعب من الشعوب، على الرغم من أن الحضارة قد تنسب إلى أمة من الأمم أو إلى منطقة جغرافية من مناطق العالم على سبيل التعريف ليس إلا، بخلاف الثقافة التي هي رمز للهوية، وعنوان على الذاتية، وتعبير عن الخصوصيات التي تتميز بها أمة من الأمم، أو يتفرد بها شعب من الشعوب، فالحضارة وعاء لثقافات متنوعة تعددت أصولها ومشاربها ومصادرها، فامتزجت وتلاقحت فشكلت خصائص الحضارة التي تعبر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها وتعكس المبادئ العامة التي هي القاسم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعا..... كما أن الحوار لا يمكن أن يكون بين الحضارات والثقافات، ولكن بين ممثلي الحضارات والثقافات، لأن الحضارات والثقافات كيانات معنوية لا تتحاور فيما بينها، فأصحابها انطلاقاً من الموروث الحضاري والثقافي عندهم هم الذين يتحاورون فيما بينهم، فقل نوع الأجيال التي يربيها البلد أقل لك نوع الحضارة الممكنة!