المرأة: أم وأخت وبنت وزوجة وقريبة وبعيدة وجارة، مع الرجل، أو ضده، له أو عليه، فيها تلك الصفة أو ضدها، نصف المجتمع، وقد تزيد قليلاً في العدد أو تنقص، وقد تكون أهم من الرجل في بعض جوانب الحياة في المجتمع، وقد تكون محور الأمر، وقد تكون على هامشه وأطرافه.
ولمقام المرأة هذا جاء عنها في التراث العربي شيء كثير، وهي في ذلك مثل الرجل لم يدون إلاَّ ما كان طريفاً أو مدهشاً، وفي النصوص التي نسوقها سوف تظهر بعض الصفات والطبائع، وسوف نرى مواقف للمرأة في المجتمع، بعضها حقيق، وبعضها رمز، بعضها حدث، وبعضها خيال، بعضها من الحياة، بعضها خرافة، وما سوف نسوقه قليل من كثير مما تغص به كتب الأدب والتاريخ العربي.
فاطمة بنت الخليفة عبد الملك بن مروان، أخت الخلفاء الأمويين: الوليد وسليمان وهشام. وزوج الخليفة عمر بن عبد العزيز. يقول المؤرخون: «لا نعرف امرأة بهذه الصفة إلى يومنا هذا سواها. كانت من أحسن النساء، النسيبة، الحسيبة، ربيبة قصور، ذا عقل كبير، وتدين عظيم».
قال فيها أحد الشعراء:
بنت الخليفة والخليفة جدها
أخت الخلائف والخليفة زوجها
كان لزوجها عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة من النعيم الذي يرفل فيه, والجاه الذي يعيش في كنفه الكثير. مشهوراً بحبه للمسك والثياب والعيشة الناعمة الفاخرة, وكانت حصيلة مخصصاته كأمير أموي أربعين ألف دينار في السنة, ولكنه ترك هذا كله حينما نُصِّبَ خليفة للمسلمين واكتفى بثروة زهيدة هي خادم وجارية اشتراهما وبغلة شهباء وأرض صغيرة كان قد اشتراها من ماله الخاص, تدرّ عليه في العام مائتي دينار يتعيّش منها هو وأسرته الكثيرة العدد, بعد أن رفض أن يأخذ أي دخل له من بيت المال مقابل عمله كخليفة.
فاطمة لم تتبع زوجها فقط راضية بهذه العيشة الزهيدة. أثاث رث قديم, وثياب مرقعة, وطعام قليل, وهي التي لم تذق طعم هذه الحياة من قبل زواجها ولا من بعده قبل الخلافة.
فكانت العنصر القوي والركن المتين والسند الأمين الذي كان يستند إليه زوجها أثناء خلافته. نظر إليها مرة زوجها عمر بن عبد العزيز وقد تزيّنت بحليّها, فقال لها بلطف: تعلمين يا فاطمة من أين أتى أبوك بهذه الجواهر (يقصد من بيت مال المسلمين)، فهل لك أن أجعلها في تابوت، ثم أطبع عليه، وأجعله في أقصى بيت مال المسلمين، وأنفق ما دونه، فإن خلصت إليه أنفقته، وإن متّ قبل ذلك، فلعمري ليردّنه الخليفة الجديد إليك؟ فتجيبه الزوجة الوفية المخلصة: افعل ما شئت يا أمير المؤمنين.
وتذكر كتب التاريخ أنّ خليفة المسلمين عمر كان يقسم تفاح الفيء, فيتقدم إليه أحد أبنائه صبي صغير يحبو على يديه وقدميه, ويأخذ من الفيء, وقد أغراه منظرها, ثم يضعها في فمه.
وينتبه أبوه الخليفة لذلك فيتجه إليه وقد اصفرّ لونه, وكأن الدماء في عروقه قد توقفت عن الجريان, فولده يوشك أن يأكل مالاً حراماً, صحيح أنها ليست أكثر من تفاحة, ولكن صحيح أيضاً أنها تفاحة من أملاك بيت المسلمين. ويمسك عمر بالتفاحة برفق وحنان, ويجذبها من فم ولده فيعود الابن إلى أمه باكياً, ويده تشير إلى التفاحة الشهية.
لم تتذمر فاطمة بل على العكس كانت دائماً متفهمة لورع عمر وخشيته لله, وكانت تماشيه وتجاريه أيضاً في ذلك. وعلى الفور أرسلت الزوجة الصالحة المؤمنة إلى السوق من يشتري لولدها تفاحاً بدل هذه التفاحة. وما إن ينتهي أمير المؤمنين عمر من عمله ويدخل إلى منزله يرى التفاحة في يد ابنه, فيتوجه إلى فاطمة زوجته ويسألها محتداً: يا فاطمة هل أخذ ابننا شيئاً من تفاح الفيء فتجيبه فاطمة باسمة, بأنها قد أرسلت من يشتري له تفاحاً. فيجيبها عمر بصوت متهدج: أتدرين يا فاطمة والله لقد انتزعتها منه كأنما انتزعتها من قلبي ولكني كرهت أن أضيع نصيبي من الله عز وجل بتفاحة من فيء المسلمين.
توفيت فاطمة بنت عبد الملك - يرحمها الله - في خلافة أخيها هشام بن عبد الملك.
هذه امرأة تقية ورعة في دين الله، متواضعة في عزة، صابرة على الطاعة ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، مخلصة لبعلها، صحبت زوجها فأحسنت صحبته، وصبرت معه على زهد وتقشف فأصبحت مثال للمرأة المسلمة والزوجة الصالحة وقدوة مضيئة لمن أراد أن يقتدي بسيدة فاضلة.