سارا القرني
أصعب المواضيع التي أكره أن أتطرق لها والتي تنهكني معنوياً هي أن أكتب عن الفراق أو الوداع، خاصة إذا ارتبطت هذه الكلمة بشخص يتصل بشرايين القلب.. فيكون كل حرف كحدّ السكين كلما توغلت أكثر في التعبير.. زاد الألم واتسع الجرح، خلال العشرة أيام الأخيرة كنت مترددة في الكتابة، لأني لا زلت أقف في نفس الموقف.. عاجزة أكثر عن البوح بما يجول في خاطري من تراكمات موجعة، لم يستقلّ الألم رحلته النهائية كي يودعني للأبد، بل فضّلَ العودة مسرعاً ليشطرني إلى نصفين، ما زال يرى فيّ بقايا صمود أمام كل الظروف المشابهة التي تكررت في حياتي، وليست مجرد ظروف.. بل وجعٌ حقيقي، أو حزن يتجسّد بالبكاء كي ترى صورته الكاملة,
قبل عشرة أيام توفي أخي الأكبر، لم يكن مجرد أخ.. كي أستطيع تجاوز موته ببضع كلمات مواساةٍ ممّن هم حولي، بل كان أكثر من ذلك، لقد شعرت أنّ والدي يموت مرتين، شعرت بفراق أبي للمرة الثانية، إذ فقدتُ والدي.. وكان أخي عزائي، سنداً يقف ذات المقامِ، وإن لم يصل لذات المكانة التي كانت لوالدي، لكنه على الأقل حملَ جزءاً من أبي.. الجزء الذي لم يمُت طيلة الوقت حتى فقدتُ أخي.
كان موتُ أخي صاعقةً بالنسبة لي، صاعقةً لم أتحملها كثيراً، شعرتُ بانهيار في جسدي، بالوحدة التي طالما هربتُ منها.. لكنها انفجرَت كسدٍّ وأغرقتني هذه المرة، ورغم أني كنت أعيشها دائماً.. لكنني لم أشعر بها لأن هناك من كان يشعل الضوء من بعيد، لذلك عشت الوحدة دون أن أشعر بألمها حتى اليوم.
في العزاء.. كان ردة فعلي صادمةً للجميع، كيف تنهار هذه الإنسانة بهذا الشكل المؤلم، ولم يكُن الانهيار ألماً بقدر ما كان كرهاً لكلمات المواساة، إذ كانت كلّ كلمةٍ بمثابةِ تأكيدٍ قاتلٍ بأنّ أخي مات فعلاً، كل كلمة مواساة جعلتني أجهش بالبكاء أكثر.. خاصة وأني محاطة بالمكان الذي عشت فيه أكبر قدر من الذكريات التي جمعتني بأخي، كنت أستشعر كل شيء حولي، كانت المواساةُ خنجراً يزيد ألمي، يؤكد وحدتي، يرميني إلى براثن العزلة القاتلة.
لحظات أصابتني بنوبة هلع وتوتر.. أدخلتني في دوامة بكاء مظلم، يكاد يمزق كل جزء داخلي، حتى بدأت أشعر أنّ كل شيء حولي يدور، والأصواتُ حولي تخفت، كمَن يودّعهُ وعيهُ ليُسْلِمَه إلى اللاوعي المبهم، لم أعد أشعر إلا بالألم الذي أطبق على صدري كأني أتنفس من خرم إبرة.
هذا هو الفراق.. أو الوداع، أو سمّيهِ كما شئت، منهكٌ جداً، يتوغّل إلى أسوأ أحزانك فيوقظها، يتسلّى بأعمق نقطة ضعفٍ حتى تنهار أمامه ببساطة.
كلّ اللحظات التي عشتُ فيها هذه التجارب على فترات من حياتي.. لا أحبها، فأنا لم أتجاوز ألماً لأقع في ألم أشد منه، كلّما رأيتُ اسم أخي في هاتفي.. يعاودني الألم ذاته، الفقد ذاته، لحظة الصدمة ذاتها، لأستمر ساعات في سكرة الحزن حتى أجد منفذاً للخروج وأتنفس الصعداء، لكني أدرك أن الذكريات والأمان يرتبطان بالأشخاص، وبعد فراقهم لن يتوقف الألم، كل شيءٍ حولي يذكّرني بأخي.. وبكل عزيزٍ على قلبي فقدتُه قبل أن أقول له «وداعاً».
لا أعرف إن كانت هذه خاطرة أم مقالاً، بوحاً أم نواحاً، كلّ ما أعرفهُ أنني كتبتُ عن كلّ الفاقدين الذين لم يجدوا أحداً يكتبُ عنهم، وأنا أولهم.