حسن اليمني
«{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} سورة الانفطار.
لو قلت إني تعبت من السنين وركض الأيام وزحام عراك المطامع والنزاعات بين البشر أفراداً وجماعات ودولاً وأمماً هل أُعد يائساً قانطاً؟ فماذا إن كنت تعبت من تلاطم الأفكار بجمجمة رأسي، هل راحتي في النوم؟ وكيف ذلك وبين الأجفان شوك السلم على شكل صور أشباح تنطط لاهية ساخرة بكآبة سكون الشجر المتلحف بعباءة الليل السوداء في ناظري.
مؤمن أحمل ثقال الذنوب والخطايا وحبالاً ملتوية بعقد من المعاصي تخنقني بضعف خُلقي الفطري الغرير بسعة الساعة التي تعيد وتكرر دورتها مرة تلو مرات حتى ثملت قدرتي تحت تراكم موجات من السنين بعضها فوق بعض لو لا أستغفر الله وأتوب إليه.
أحلم بالخروج من الأنسة إلى الوحشة لأستعيد بدائيتي السابحة في الهواء بلا طعم أو لون أو رائحة، لم أعد أريد اسمي ولا جنسي ولا هوية ميلاد أو شهادة وفاة، أريد فقط جواز سفر خارج الوجود المشحون المزدحم الملوث الصاخب إلى فضاء صامت وضوء خافت وسرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة، أريد أن أطمر وجهي بالأرض سجوداً ينسيني الوجود في حضرة رب الوجود، انتصر بضعفي في قوته وصغري في عظيم قدرته وهو الذي يقول للشيء كن وليس لهذا الشيء حتى وإن كان عدماً إلا أن يكون في صورة تعطي للمنتهى أبد وللأبد أبدٌ أبد، حياة تعجز الخيال وتُنهي كل الصور كطهر لألي البرد فوق خد الصخر.
أشعر بالخوف من نفسي في خُلد بدني وتُمزّق أفكاري قماش كسائي وحركة يدي ونظر عيني وصوت أذني ووطء قدمي في تزاحم الأهواء والأغواء بين سراء وضراء وركض لا يستقر بنهار ينتظر ليلاً ولا ليل يستقر بلا نهار منتظر، كل شيء فيني يركض، أفكاري وأمنياتي وكريات دمي وخلايا لحمي وعظمي وكلها مجتمعة تركض هي الأخرى بين أهلي ومن حولي الذين يركضون هم أيضاً بما حولهم وهكذا ركض يركض بركض آخر، ثم لا يكفي هذا الركض والسباق نحو بطن الأرض للفوز بالجائزة كفن ولحد، حتى الأرض تركض هي أيضاً ملتفة كأنما تبحث عن وجهة, ضجيج كل هذا الركض الراكض لم يكفِ الإنسان حتى استعار الذبذبات والإلكترون المتناهي في الصغر ولا تراه العين البشرية ليساعدنا في الركض والركض لأجل الركض الذي زاد خلايا العقل شحنات من الكهرباء التي تسابق سرعة الضوء في أعماقنا لو لا أن بذكر الله تطمئن القلوب.
كل نفس لا ينطق باسم الله عبء على وجوده ولوث لملَكَة الحياة، كيف إذن وأنا أنسى ساعتي وزماني في الساعة الواحدة مئة يوم، كيف وأنا أنظر للمرآة أعدل هيئتي لأجمِّل قبح ملوثات المُثل في صورة إنساني المنسية، رعب وخوف ورهبة من الوجود لو لا أن النسيان نعمة من نعم الله، سبحان من أشرقت الشمس بنور وجهه وعظيم جلاله، رب جعل الخوف منه شجاعة لتحرير النفس من ضعفها، وذكره سلاح تدمير للقلق والوساوس وعبادته بالطاعة والاستسلام سيادة وعظمة والذنب لمزيد من الغفران والمعصية لفتح باب التوبة، كمال واكتمال، فيا {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}.
إن التأمل بعمق في ماهية الوجود وماهية الإنسان والعلاقة بينهما ومداها ومنتهاها ومضمونها وفحواها يبقى برغم عظيم المعنى كنزهة روحانية للنفس قد تغريك بالهروب من الوجود والبحث عن الخلاص من الخلق الإنساني إلى الخلق الملائكي الذي لا يتوافق مع العقل البشري فأين ترمي عقلك ومن أين لك بالقدرة على السمو الروحي وفي داخلك نفس آدمية كالهواء لا حجم لها ولا كتلة توازنها بين سوء ولوم واطمئنان، سبحان القائل في محكم كتابه {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} كل شيء في هذا الكون حراكه يدور حول إبرة الميزان متناهية الدقة في وزن حتى الخاطرة والفكرة العابرة والنظرة الخاطفة وكل خلجة في النفس تخل بالسكون، وأختم بقوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ}.