اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
ووصول المظاهرات إلى العاصمة طهران وانتقالها من الأطراف إلى المركز أعطاها دافعًا معنوياً وأهمية كبيرة، إذ إن وجودها في معقل النظام يُشكِّل عامل ضغط عليه، بالإضافة إلى ما يواجهه من تحديات اقتصادية ومتاعب داخلية وعزلة سياسية وضغوط دولية.
وبالإضافة إلى ما يحدث على الأرض من تحركات واحتجاجات، وما يرافق ذلك من مظاهر التعبير عن الغضب عن طريق الشعارات والبيانات، فإن ثمة دورًا مؤثرًا وفاعلاً لوسائل التواصل الاجتماعي لفضح سياسة النظام القمعية ولجوئه إلى العنف عند التعامل مع المتظاهرين، مما اضطره إلى التدخل في عمل الشبكة العنكبوتية ومحاولة تقييد الوصول إليها بهدف التعتيم على المظاهرات وحجب وتغطية استخدام القوات الأمنية للقوة بشكل مفرط ضد المحتجين والمتظاهرين.
وهذا يعني أن النظام الإيراني عمل ما بوسعه لتعطيل خدمة الإنترنت لإعاقة التواصل بين المتظاهرين، وعرقلة كل ما من شأنه تأجيج الاحتقان الداخلي ومنع وصول تطور الأحداث إلى الإعلام الخارجي تفادياً لما يحصل من عمليات التحريض والتفاعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وقد حظيت الاحتجاجات بدعم من قوى المعارضة التي دخلت على خط هذه الاحتجاجات وساهمت في تنظيمها وزيادة زخمها على المستوى الداخلي بجميع فئاته، كما لاقت دعماً من معارضة الخارج التي أيد رموزها وأقطابها الاحتجاجات ودعوا إلى إيصال صوتها إلى المجتمع الدولي، وهو أمر ترتب عليه أن تأييد الاحتجاجات والتفاعل معها في الخارج لم يتوقف على المعارضة، بل تعداها إلى مختلف الجاليات الإيرانية أين ما وجدت.
وكما هو معروف ومألوف فإن عقيدة النظام الصفوية المجوسية وطبيعة ممارساته الثورية التسلطية نجم عنها تعرض الانتفاضة لحملة منتاهية الشدة والقسوة من القمع والعنف، تتمثل في الاعتقال والسجن والتعذيب والقتل للقضاء على الانتفاضة ووأدها في مهدها، ومقابلة الاستياء الاجتماعي الذي يغذي الانتفاضة ويحركها، بحشد السلطة لآلتها القمعية وقوتها المميتة ليحل القتل وسوء المنقلب محل الأمل وتحقيق الطلب.
والنظام الحاكم الذي ينص دستور دولته على تصدير الثورة ومذهبها يُبيح التجني وفضح العورة، هو أبعد ما يكون عن الإسلام وأقرب ما يكون إلى الفاشية والإمبريالية ذات النهج المصبوب في قالب ثيوقراطي كهنوتي.
والنظام الذي هذا حاله لن يتورع عن سلب الحريات واستباحة المحرمات وارتكاب المنكرات ومقابلة مطالب الشعب المبررة بالممارسات المنكرة والغادرة والتعامل مع المتظاهرين بالقمع والعنف والقتل.
وفي ظل فشل الحكومة الحالية المتشددة والاختلافات المحتدمة بين الإصلاحيين والمحافظيين وإدارة المشهد من قبل المرشد والحرس الثوري بطريقة يتم التعاطي فيها مع الانتفاضة بين الإنكار والمكابرة والقمع والمحاصرة بدءاً من تضليل وخداع الرأي العام وإحاطة الاحتجاجات بالتعتيم وتشويه الحقائق، ومروراً بتعطيل خدمة الإنترت والمحاولات المستميتة لإجهاض الانتفاضة، ووصولاً إلى ممارسات العنف الممنهج والنشاط والفكر المؤدلج، وانتهاءً بتفويت الفرصة على الذي يحاول أن يستنتج.
والواقع أن الاحتجاجات في إيران كانت جاذبة للرأي العام لأنها حصلت في أعقاب الاعتداء على امرأة، الأمر الذي جعلها تحظى بدعم دولي وتعاطف عالمي وانتقاد منظمات حقوقية دولية رغم أن الأصوات المنددة بالحالة محدودة التأثير باستثناء التلويح بإمكانية توفير خدمات الإنترنت للشعب الإيراني مع أن الإدارة الأمريكية الحالية التي من المفترض التعويل على موقفها لا تزال رهينة للاتفاق النووي ولديها أمل في العودة إليه في أقرب وقت.
وهذه الحادثة وضعت النظام الإيراني أمام جملة من التحديات التي توحي أسباب اندلاعها وردود الأفعال بشأنها باحتمال حصول تداعيات ونتائج خطيرة تتحدد على ضوئها العلاقة بين الشعب والسلطة السياسية التي أصبحت تعاني من تراكم الضغوط الداخلية وما يتداعى لها من تداعيات وضغوط خارجية.
ومن الملاحظ اهتزاز بعض المسلمات التي يراهن عليها النظام وحدوث خلل في الهوية الثقافية والثورية بشكل نتج عنه مؤشرات على هشاشة النظام وتآكل ثوابته من جراء تعثره على المستويات الدينية والاجتماعية والاقتصادية واعتماده على الحلول الأمنية.
والاحتجاجات والشرارة التي أدت إلى اشتعالها زادت من اتساع الفجوة بين تيار الإصلاح والتيار المحافظ وعرَّت موقف كل منهما تجاه هذه الاحتجاجات وكيفية التعامل معها، فالتيار الأول يميل إلى المرونة ويدعو إلى الوسطية والتخفيف من التشدد، مطالباً باتخاذ قرارات صارمة في هذا الاتجاه لامتصاص غضب المتظاهرين وتجاوزر الأزمة، والتيار الثاني يرى أن في ذلك إخلالاً بثوابت الثورة وتراجعًا عن رسالتها ونيلاً من ثقافتها وهويتها والإيديولوجية التي تؤمن بها.
ومن دواعي القلق بالنسبة للنظام الحاكم أن الاحتجاجات أخذت طابعاً وطنياً نتيجة لوجود عوامل مشتركة ومطالب جامعة يلتقي عندها الإيرانيون بمختلف انتماءاتهم الأمر الذي يجعل من الصعب على النظام احتواء الانتفاضة بشكل نهائي ودائم بالإضافة إلى أن اشتراك الشباب فيها يترتب عليه انفصام في العلاقة بين أجيال الشباب والسلطة الحاكمة مهما حاول أعضاء هذه السلطة التهرب عن الواقع والقفز إلى الأمام من أجل المحافظة على الشرعية الدينية المتآكلة.
ومما لا يرقى إليه الجدل أن النظام الإيراني تنازل عن بعض شعاراته، وأصبح يعيش في اسوأ حالاته بسبب الظروف والضغوط المحيطة به ووجود هوة غير مسبوقة بين النظام الذي يحاول تطبيق قواعد ثقافية ودينية غير قابلة للتطبيق دون أن يكترث بمعاناة شعبه المعيشية والاجتماعية، أو يحسب حساباً لتطور الأحداث في الداخل والخارج.
ورغم أن سقف التوقعات قد لا يكون مرتفعاً حتى الآن إلى الدرجة التي تتحول معها الانتفاضة الشعبية الحالية إلى ثورة تؤدي إلى تغيير النظام إلا أنه من المؤكد أن اتساع قاعدة الاحتجاجات ونوعية المطالب التي انطلقت منها واشتمالها على جميع الانتماءات الشعبية وحالات الغضب والاحتقان والاستياء المزمنة، كل ذلك كفيل بإرغام النظام على إصلاحات جوهرية ترقى إلى مستويات غير معهودة تجعل النظام يستجيب لكثير من المطالب ويغير نفسه بنفسه مع الترقب المقلق لتكرار المشهد كلما استجد موقف أو حصل حالة غضب، هذا إن لم يخدم الوقت استمرار المظاهرات في إسقاط النظام.