د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
بعد مرحلة من الوفرة المالية التي انتهت بفوضى عام 2008 نمت خلالها الأجور الحقيقية بنحو 33 في المائة في كل عقد خلال الفترة بين عامي 1970-2007 في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لكنها لم تنم بنفس المعدل في العقد الثاني من القرن الـ21 عندما كانت مصحوبة بأسعار فائدة منخفضة جداً، التي كان هدفها تدفق الأموال إلى الشركات الناشئة الخاسرة التي عادت بالنمو بسرعة وتم التوسع في اشتر الآن وادفع لاحقاً عبر أقساط دون فوائد، كان نموذجاً مؤهلاً لمساعدة تجار التجزئة على زيادة المبيعات في عصر كان الشباب المستهلكون يمرون بضائقة مالية، لكن البعض يراه ثراء خادعاً، كان المال محدوداً، وتعرضت نماذج الأعمال لضغوط، انخفض مثلاً تقييم كلارنا التي كانت ذات يوم شركة التكنولوجيا الخاصة في أوروبا انخفضت قيمتها من 46 مليار دولار إلى 6.7 مليار دولار، فعصر الأموال الرخيصة يمثِّل نهايته.
رفع أسعار الفائدة في كل البنوك المركزية في العالم لمواجهة التضخم بسبب أحداث السوق العنيفة كالاضطرابات الأخيرة في أسواق معاشات التقاعد والسندات في بريطانيا لا يبشر بخير عمَّا ينتظر الأسواق والنظام المالي، مما يضع المنظمين على المحك، هناك تراجع على الدخل الحقيقي للأسر في الاتحاد الأوروبي يجبرها على ادخار المزيد والتخلي عن بعض الإنفاق لضمان توافر الأموال الكافية للتدفئة خلال فترة الشتاء.
ووفقاً لمحللة أمريكية اليسون شارجر في تحليل نشرته وكالة بلومبرغ التي انتقدت أداء رئاسة البيت الأبيض التي لا تتدخل في أسعار الطاقة ولا أسعار الأصول، لكن إدارة البيت الأبيض تصبح مؤثرة عندما تتعلق بوضع السياسة الاقتصادية، وترى أن هذه السياسة سيئة بالنسبة للاقتصاد، فالاقتصاد السليم هو ذلك الذي ينمو مع معدل تضخم منخفض أو مستقر ومرونة في مواجهة الصدمات وقدرة على خلق أو تبني التكنولوجيات الجديدة، لكن سياسة البيت الأبيض تدمر كل هذه السمات لتقود أكبر اقتصاد في العالم نحو كارثة إذا لم تتدارك إدارة البيت الأبيض.
الفائدة الحالية في الولايات المتحدة البالغة 4 في المائة الأعلى منذ عام 2008 بعد رفعها ست مرات منذ مارس 2022 منها 4 مرات 0.75 في المائة كانت الفائدة عند أدنى مستوياتها مطلع 2022 بعد خفضها إلى ما بين 0 و0.25 في المائة، وكانت أعلى فائدة في مطلع الثمانينات عند 20 في المائة لمواجهة التضخم القياسي الذي بلغ حينها 15 في المائة لمحاربة أسوأ ارتفاع تضخم منذ 40 عاماً، رغم ذلك يدرك مجلس الاحتياطي الفيدرالي اللهجة الجديدة لبيان السياسة النقدية إدراكاً بالتأثر السلبي المستمر للوتيرة السريعة للمجلس في رفع أسعار الفائدة، وكذلك رغبته في التركيز على الوصول إلى مستوى ملائم لسعر الفائدة من شأنه أن يكون كافياً لإعادة التضخم إلى معدله المستهدف عند 2 في المائة بمرور الوقت.
في نفس الوقت ستأخذ لجنة السوق الاتحادية المفتوحة في الحسبان تأثير التشدد التراكمي للسياسة النقدية على النشاط الاقتصادي والتضخم والتطورات الاقتصادية والمالية، وهناك نقاش في الخطر المتمثّل في أن استمرار رفع أسعار الفائدة يمكن أن يشكل ضغطاً هائلاً على النظام المالي أو ربما يؤدي إلى الركود.
كذلك رفع البنك المركزي السعودي رفع معدل اتفاقيات إعادة الشراء الريبو بمقدار 75 نقطة أساس إلى 4.5 في المائة، ورفع معدل اتفاقيات إعادة الشراء المعاكس الريبو العكسي بمقدار 75 نقطة أساس إلى 4.00 في المائة، اتساقاً مع هدف البنك المركزي السعودي في المحافظة على الاستقرار النقدي والمالي.
ويبدو أن صانعي السياسة في الاحتياطي الفيدرالي قد يعتقدون أن تكاليف الاقتراض ترتفع بما يكفي لإبطاء الاقتصاد وتقليل التضخم، وفي الوقت الحالي، فإن استمرار تضخم الأسعار وتكاليف الاقتراض يضغط على الأسر الأمريكية ويقوِّض قدرة الديمقراطيين على القيام بحملات من أجل صحة سوق العمل في الوقت الذي يحاولون فيه السيطرة على الكونغرس، في الوقت نفسه هاجم الجمهوريون الديمقراطيين بشأن التأثير المعاقب للتضخم في الفترة التي تسبق انتخابات التجديد النصفي.
نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة ارتفعت قيمة الدولار 20 في المائة بسبب شراء الدولار بوصفه ملاذاً آمناً في أوقات الاضطراب، لكن جزءاً كبيراً منه يرجع إلى حاجة المستثمرين غير الأمريكيين لشراء الدولارات لتغطية الخسائر في الأصول الدولارية، أو تقليل عمليات التحوط عليها، فبعد عقود من حالات العجز المزمنة في الحساب الجاري، اجتذبت الولايات المتحدة مبالغ هائلة من رأس المال الأجنبي لتمويل لهذه العجوزات، وراكمت بذلك عجزاً في الأصول المالية الخارجية مقارنة بالتزاماتها التي تزيد على 18.5 تريليون دولار، حيث يمتلك الأجانب حالياً أكثر من 14 تريليون دولار من السندات المقومة بالدولار، نصفها محفوظ على شكل احتياطيات رسمية، وما تبقى يوجد غالباً في حوزة المستثمرين في الدول ذات الفوائض المزمنة في الحساب الجاري.
ومن المرجح أن يقوم المستثمرون المؤسسيون الأجانب بالتحوط ضد مخاطر صرف العملات على سنداتهم المقومة بالدولار، لأن امتلاك سندات أجنبية بدون تحوطات لا يعد أمراً جذاباً نظراً إلى تقلّب العملات، وعادة ما يقومون بالتحوط من انكشافهم عن طريق بيع الدولار والموافقة على شراء عملتهم المحلية لأجل مسمى، ففي 2021 عانى المستثمرون خسائر فادحة بسبب ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض محافظ السندات الدولارية التي انخفضت 20 في المائة، اضطر المستثمرون إلى تعديل تحوطاتهم خفضاً بشراء الدولارات مرة أخرى وبيع عملاتهم المحلية.
إحدى الطرق الرئيسية التي كان من المتوقع أن تظل الاختلالات الدولية محتواة بها هي أن دولة تعاني عجزاً مزمناً في الحساب الجاري مثل الولايات المتحدة ستعاني في مرحلة ما انخفاضا في قيمة عملتها، لأن المستثمرين الأجانب سيصبحون مشبعين بمخاطر الأصول المقومة بالدولار، ومن شأن هذا الانخفاض في قيمة العملة أن يساعد الولايات المتحدة على إعادة التوازن لحسابها الجاري.