د.عبدالله بن موسى الطاير
من مقاصد الإسلام السامية هداية الدولة، وليس تسييس الدين، ولذلك تشترك الدولة في الإسلام مع الدولة في غيره من الديانات في ثلاث مسائل هي تحقيق العدل، والشورى (المجالس التشريعية)، والمساواة في الحقوق والواجبات.
الإسلام السياسي، واليهودية السياسية، والمسيحية السياسية، والبوذية السياسية قدمت مفهوماً مختلفاً لدور الدين في السلطة. أقول هذا مستشهداً بنتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، وقدرة اليمين المتدين على إقصاء منافسيه من الأحزاب اليسارية والليبرالية المعتدلة، وهيمنته على الحياة السياسية في إسرائيل.
وكما هو الحال في الدولة العبرية «اليهودية»، هو في إيران؛ الدولة «الإثني عشرية»، وفي الهند يحكم حزب باراتيا جاناتا بفكر قومي هندوسي إقصائي، وفي إيطاليا عاد اليمين المسيحي للسلطة في مفاجأة لأوروبا، ويشكل الخطاب اليميني المتدين في أمريكا توجهاً لنصف الأمريكيين تقريباً.
على الصعيد الإسلامي، كان الدين مناط الشرعية للدول التي قامت منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، واستمر كذلك حتى سقوط الدولة العثمانية التي وأدت كل مهدد لها بحرمانه من دعم الدين؛ فبادروا إلى وصم الحركة الإصلاحية التي واكبت الدولة السعودية الأولى بالوهابية، وقدموها للمسلمين على أن ديناً جديداً يدعى إليه في شبه الجزيرة العربية في محاولة لتنفير المسلمين المحليين من جانب، واستعداء المسلمين في الأقاليم المجاورة من جانب آخر على الدولة السعودية الأولى، وهو ما تحقق بالفعل في الحملة المصرية التي قضت على حكم الدرعية، وما زالت السعودية منذئذٍ تتعرض للتشويه.
توظيف الدين للاستيلاء على السلطة أو المحافظة عليها ظهر في جانب الإسلام السني والشيعي، فتنظيم الإخوان المسلمين الذي ولد عام 1928م حيث عملت الجماعة بعد سقوط الخلافة الإسلامية على استعادتها «والقيام بأدوارها وإعادة الحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة في الحياة اليومية»، وقد قرر حسن البنا أن «من طبيعة الإسلام أن يسيطر، لا أن يهيمن، ويفرض قانونه على جميع الأمم ويمد سلطته إلى الكوكب بأسره». ولذلك كانت بيعتهم على المصحف والسيف بما في ذلك من رمزية، وتحلوا بالصبر في الإعلان عن وجودهم إلى عام 1947م، حيث بدأوا بناء الهياكل التنظيمية وتعبئة الشارع وتقديم أنفسهم للغرب على أنهم التنظيم الذي يسيطر على عقل الشارع ومشاعره. وكما هو حسن البنا وجماعته في الجانب السني، جاء الخميني لاحقاً بفكرة ولاية الفقيه، وهي تطبيق آخر للإسلام السياسي يرى من خلاله الخميني «أن الحكومة جزء من ولاية رسول الله (ص) المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج».
على الرغم من أن ولاية الفقيه ولدت متأخرة عن جماعة البنا، فإنها سبقتها في التطبيق، ولذلك كان الخميني إماماً لأتباع الإسلام السياسي، وكان ملهماً وداعماً إن لم يكن موظفاً للجماعة في تحقيق إمامته للمسلمين على اعتبار أن ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، وقيام الدولة الإسلامية واجب على جماعة البنا أن تسنده حتى وإن كان على يد أقلية من المسلمين حتى تتمكن الأغلبية.
هذا الحلف التكتيكي لم يكن له أن يصمد فيما لو تمكن الإخوان المسلمون من تأسيس دولتهم، فالصدام حتمي بينهم وبين ولاية الفقيه، فالولي الفقيه سيصطدم لا محالة مع مرشد الإخوان إذ هو ولي فقيه في الجانب السني من الإسلام. ومنذ قيام الثورة في إيران حصل تعاون وتخادم بين الجماعات الإرهابية التي فرختها جماعة الإخوان المسلمين وبين مؤسسة ولاية الفقيه استهداف الأنظمة الإسلامية العربية تحديداً، فلا ولاية الفقيه ولا جماعة الإخوان المسلمين تؤمنان بالدولة القطرية، وإنما غايتهم الأمة.
لم يكن الغرب -الذي لطالما رغب في وضع العالم العربي بين عمامتي الولي الفقيه ومرشد الإخوان- غائباً عن المشهد، فقد أقلع الخميني على طائرة غربية من عاصمة أوروبية ليحط في طهران ويؤسس سلطته، وفي المقابل كانت جماعة الإخوان المسلمين محل تقدير الليبرالية الديموقراطية حيث رأت فيها شريكاً يمتلك الشارع، وعنده تبرر الغاية الوسيلة، ولذلك كان الدفع بهذه الجماعة مدروساً للسيطرة على العالم العربي العصي على الديموقراطية ظناً من المخططين أن الجماعة ستكون بتلك الوداعة عندما تتسلم السلطة وأنها ستتخلى عن الحاكمية الإلهية التي تفرض وجود الجيش العقائدي المعني بفرضها على العالم كما يشير الدستور الإيراني.
الدين على مستوى تهذيب السياسة، وتوجيهها وعدم منازعة الأمر أهله، أو على مستوى تسييس الدين، لم يكن ولن يكون بعيداً عن صراع السياسة، والتمكين للقوة، وهو الحصان الرابح في كل الديانات، لأنه قادر على حشد الشارع، وحماية السلطة، مما يجعل الساسة بغض النظر عن تدينهم الذاتي يحتفظون به على مرمى الحاجة بحيث يستدعى في وقتها، ولعل هذا ما يبرر تدين الخطاب السياسي للرئيس بوتين بين الفينة والأخرى منذ بدء حربه على أوكرانيا.