اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
منذ اندلاع الثورة الإيرانية ونظام الملالي في إيران يعمل على مسارين متوازيين يجمع بينهما قاسم مشترك يتمثّل في الحرص على إضفاء الشرعية على ولاية الفقيه وجعلها معصومة من النقص وامتطاء الدين لخدمة السياسة مع التركيز على القوة العسكرية والأمنية لدعم المسارين، حيث يهدف المسار الأول إلى تثبيت أركان النظام وإحاطته بهالة من المذهبية والفكر الصفوي وإحكام السيطرة على الداخل الإيراني بجميع أطيافه وأعراقه، كما يركز المسار الثاني على توسيع نفوذ إيران في الخارج من خلال تصدير الثورة ونشر التشيع في الدول المجاورة.
وهنالك مسار إضافي يخدم المسار الأول والثاني تعتمد فيه إيران على النفاق السياسي واستخدام الدين لتحقيق أهداف دنيوية بحيث تتظاهر بالدفاع عن الدين والقضية الفلسطينية عن طريق رفع الشعارات المعادية لأمريكا وإسرائيل وهي أبعد ما تكون عن هذه العداوة، متخذةً من هذا المسار وسيلة للخداع والمساومات والمزايدات بما يخدم المسارين الأساسيين.
ومن أجل المحافظة على بقاء النظام الحاكم وقدرته على ضبط الداخل وتصدير الثورة إلى الخارج أنصب اهتمامه على بناء قدرات إيران العسكرية والأمنية بما في ذلك صناعة وإنتاج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة مع الذهاب بعيداً في مجال التسلح، حيث لم يكتف بالاهتمام بالأسلحة التقليدية فحسب، بل قطع شوطاً في مجال بناء المفاعلات النووية، حيث تحوَّل برنامجه النووي إلى معضلة نووية وقضية أممية في مجلس الأمن.
وقد نجح نظام الملالي في المسار الثاني عن طريق وكلاء وأذرع إيران في عدد من الدول العربية، حيث استفحل نفوذ إيران في تلك الدول إلى الحد الذي جعل أحد قادة إيران يصرح بكل وقاحة وتبجُّح بأن بلاده تحتل أربع عواصم عربية.
ونجاح النظام الإيراني في المسار الثاني وما رافقه من تبذير أموال الشعب وتدمير اقتصاد البلاد انعكس سلباً على المسار الأول، وجلب لإيران ضائقة اقتصادية وعزلة سياسية في الوقت الذي يحتاج فيه الشعب الإيراني إلى من يخفف من معاناته من جراء الفقر والبطالة والتضخم والفساد الممنهج نتيجة لتبذير المال العام فيما يضر ولا ينفع، كما هو الحال بالنسبة لممارسات النظام في دول الجوار وتمويله للتنظيمات والمليشيات المتمردة على حكوماتها والمتنكرة لأوطانها.
وعلاوة على ما ترتب على هذا المسار من معضلات اقتصادية ومشكلات سياسية فإن تدخّل إيران في الشؤون الداخلية للدول المجاورة ودعمها للجماعات المتطرفة في هذه الدول جعل من إيران دولة مزعزعة للاستقرار وجالبة للخراب والدمار في المنطقة، الأمر الذي أخرج هذا البلد من مفهوم الدولة ذات المؤسسات الخاضعة للقوانين الدولية والأعراف المرعية إلى كيان ثوري عدواني يرعى الإرهاب تحت مظلة تصدير الثورة تارة، ونشر التشيع تارة ثانية، ومناصرة الأقليات تارة ثالثة، وما يعنيه ذلك من تهديد السلم الاجتماعي في الداخل والسلم الإقليمى والدولي في الخارج.
والتداعيات الناجمة عن العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران من قبل أمريكا زادت الوضع سوءاً، وضاعفت من معاناة الشعب على نحوٍ ضيَّق الخناق على المواطنين في معيشتهم وقوتهم اليومي وأوصل نسبة كبيرة منهم إلى مستوى خط الفقر، ناهيك عن الوضع المتردي بالنسبة للقوميات العرقية والأقليات الدينية بالإضافة إلى الاحتقان الشعبي المزمن والاستياء الاجتماعي القديم المتجدد، وما تسبب فيه ذلك من أن الشعب لم يكن محصنناً، بل أصبح سرعان ما يغضب عندما يحصل أي حادث في البلاد، خائفاً من سوء المنقلب والمصير، ومتهما النظام الحاكم بالكذب والتقصير.
ولا شك أن إخفاق الحكومات المتعاقبة عن الوفاء بالتزاماتها والاضطلاع بمسؤولياتها وفشلها في التعاطي مع الأزمات الداخلية والخارجية واعتمادها على فرض سياساتها بالقوة في الوقت الذي يعاني فيه الشعب من تردي الوضع المعيشي وغلاء الأسعار وانهيار الاقتصاد والبطالة والتضخم وتأثير العقوبات الأمريكية وتداعيات الملف النووي، كل ذلك أوجد بيئة داخلية محتقنة وأمة محبطة قابلة للاستجابة لأي محرك يحركها ومؤثر يستثيرها ضد النظام الحاكم.
وانطلاقاً من الاستياء الشعبي والغضب الاجتماعي وتعبيراً عن حالة الإحباط التي يعيشها الشعب الإيراني منذ عقود من جراء ممارسات النظام الجائرة وتصرفاته المنكرة تم التجاوب والتفاعل مع الانتفاضة التي أشعلت شرارتها الفتاة الكردية في إقليم كردستان الإيراني، والتي سرعان ما أتسع نطاقها وكبر حجمها وانتشرت الاحتجاجات المؤيدة لها على المستوى الوطني.
ومن الواضح أن هذا الحادث حصل في بيئة مهيأة للانفجار بسبب تشدد النظام واتساع الفجوة بينه وبين هويته التي يحاول فرضها بالقوة القمعية، وما يقابل ذلك من احتقان شعبي على خلفية من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية التي شكلت أرضية خصبة للاحتجاجات على نحو يعكس حالة الغضب الناجم عن فقدان الشعب لأبسط مقومات حياته وشعوره بالظلم والحرمان.
والانتفاضة الحالية تتفق مع سابقاتها من حيث الأبعاد والتوصيف، وتختلف عنها من حيث الكم والكيف، فمقتل الشابة الكردية على يد ما يعرف بشرطة الأخلاق أدى إلى اندلاع الاحتجاجات وفتح الباب على مصراعيه لطرق طريقاً غير مطروقة ومشاركة غير مسبوقة من قبل النساء والشباب وطلاب الجامعات، مما يوحي بالدخول في مواجهة جديدة بين جيل الشباب والنظام الحاكم، وما ينطوي عليه هذا الأمر من احتمالات وتداعيات بالنسبة لهذا النظام الذي أصبح هدفاً للمحتجين في شرعيته وطبيعة حكمه وهويته.
والواقع أن المشاركة الواسعة من مختلف الطبقات والفئات الشعبية وتجاوز الانقسامات العرقية، وتصدُّر النساء والشباب المشهد أضاف إلى الاحتجاجات زخماً وأضفى عليها طابعاً خاصاً فضلاً عن أنها تأتي في وقت حرج تتجاوز المطالب فيه الإصلاح الاقتصادي والسياسي إلى ما هو أبعد وأشمل.
وبالطبع فإن هذه الاحتجاجات والمظاهرات أخذت نمطاً استثنائياً وبعداً مناطقياً، وكانت أشد حدة وأكثر أهمية وأطول وقتاً من سابقاتها، نظراً لارتفاع سقف مطالب المتظاهرين وتنوع مشاربهم ومذاهبهم وقوة التماسك فيما بينهم رغم تعدد خلفياتهم واختلاف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعرقية.
ومن هذا المنطلق فإن مَنْ يُمعن النظر في طبيعة الاحتجاجات والمظاهرات من حيث الكم يتضح له أنها شملت معظم المدن والمناطق الإيرانية، وتداعى لها تداعيات كثيرة على المستوى الداخلي والخارجي، كما يتجلَّى للناظر من حيث الكيف أن مطالب المحتجين ذات سمة عميقة ورؤية بعيدة توحي بأن المظاهرات قابلة للتكرار في المستقبل مهما توقفت بسبب القمع والاحتواء.