عبدالرحمن الحبيب
كل يوم يجمع البشر في بحثهم بالإنترنت تريليونات البيانات، وعند تتبع الآثار الرقمية التي يخلّفونها وراءهم عن طريق نقر الأزرار والاختيارات بعفوية حيث يكون الناس على سجيتهم، تتكشّف حقيقة ما بداخلهم من رغبات ومخاوف، فبعض مواقع الإنترنت تدفع الناس للاعتراف بأشياء لا يعترفون بها في أي مكان آخر، إنها بمنزلة مصل الحقيقة الرقمية، بدلاً مما يقوله الناس للآخرين لأنهم يكذبون على أصدقائهم، وأحبابهم وأطبائهم، وحتى في الاستبيانات مجهولة الاسم، بل حتى على أنفسهم، وفقاً لاستنتاجات عالِم البيانات في غوغل سابقًا والخبير الاقتصادي سيث ستيفز دافيدوتس.
دافيدوتس مؤلف كتاب «الكل يكذب: البيانات الضخمة والبيانات الجديدة وما يمكن أن يخبرنا الإنترنت عمن نكون حقًا» الذي يقدم رؤى جديدة مفاجئة تجمع بين الغرابة والجدية.. طريفة ومزعجة من الاقتصاد إلى الأخلاق ومن الرياضة إلى الجنس مستمدة من عالم البيانات الضخمة. كانت مهنة المؤلف في جوجل تتضمن متابعة الآثار الرقمية لتريليونات الاختيارات عن طريق الأزرار، وتحليل بياناتها يعطي مفاتيح جديدة على مغاليق النفس البشرية تتدفق معه العديد من الاكتشافات في شتى المجالات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ ويكشف عن التحيزات المتأصلة بعمق في داخلنا، ليصل لنتيجة حادة بأن معظم تصورات الناس عن الآخرين لا أساس لها من الصحة لأن الناس يكذبون حسب استنتاج المؤلف..
خذ مثلاً: كل استطلاعات الرأي قبيل الانتخابات الأمريكية بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب توقعت فوز الأولى، لكن النتيجة كانت فوز ترامب.. وقيل حينها: إن بعض الأشخاص المستطلعة أراءهم لم يكونوا صادقين لكي لا يظهروا بمظهر سلبي أمام السائل رغم عدم ذكر الاسم.. خذ أسئلة الاستبيانات: ما هي نسبة الناخبين البيض الذين لم يصوتوا لباراك أوباما لأنه أسود؟ هل يفضل الآباء سرّاً الأولاد على البنات؟ هل الأفلام العنيفة تؤثر على معدل الجريمة؟ ما مدى انتظامنا في الكذب بشأن حياتنا؟
كثير من الناس لا يبلِّغون عن السلوكيات والأفكار المحرجة في الاستبيانات، لأنهم يريدون أن يظهروا بمظهر جيد، حتى لو كانت هذه الاستطلاعات لا تُظهر أسماءهم، وهذا ما يسمى تحيُّز الاستحسان الاجتماعي خاصة إذا كان الاستبيان يتعلق بالجوانب الشخصية للمُستجوَب مما يجعله مضطرّاً لخلق الادعاءات أو المجاملة والكذب الأبيض التي تؤدي في النهاية إلى تضليل الاستبانات السرية.
يزعم المؤلف أننا لم نعد بحاجة إلى الاعتماد على ما يقوله الناس لنا، فالبيانات الجديدة المستمدّةُ من الإنترنت بمنزلة آثار من المعلومات التي يخلّفها مليارات من اختيارات البشر على محرك البحث جوجل، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع المختلفة، تمكننا اكتساب معرفة مذهلة عن النفس البشرية التي بدت قبل أقل من عشرين عامًا غير مفهومة: «فكما أن المجهر يُظهر لنا أن قطرة من ماء البركة تحمل معها أكثر مما كنّا نعتقد بأننا نراه، وكما أن التليسكوب كشف لنا أن سماءنا المظلمة تحمل في جوفها أكثر مما كنّا نعتقد أننا نشاهده، كذلك تكشف لنا البيانات الرقمية المعاصرة أن لدى الجنس البشري أشياء أبعد مما كنا نعتقد أننا نراها، وقد تكون هي مجهر أو تلسكوب عصرنا التي يمكن عبرها العثور على رؤى مهمة إن لم تكن ثورية».
«إن العمل اليومي المتمثل في كتابة كلمة أو عبارة في صندوق أبيض مستطيل مضغوط يترك أثرًا صغيرًا من الحقيقة، وعندما يتضاعف العدد إلى ملايين، سيكشف في نهاية المطاف عن الحقائق العميقة»، عن أنفسنا وعالمنا، اكتشافات يمكن أن تساعدنا في فهم أنفسنا وحياتنا بشكل أفضل من خلال التحقيق في أسئلة البحث والأسئلة التي نخشى طرحها والتي قد تكون ضرورية لصحتنا العاطفية والجسدية شريطة أن نسأل الأسئلة الصحيحة وبالاعتماد على الدراسات والتجارب حول كيف نعيش ونفكر حقاً، وفقاً للكتاب.
يرى دافيدوتس أن كل إنسان يمتلك قاعدة بيانات ضخمة في تجارب حياته منذ الطفولة أو ما أطلق عليها «البيانات التقليدية» التي تمدنا بتصور عام لطبيعة ما حولنا أو ما نسميه الحدس، لكنه غير موثوق ومنحاز، على نقيض البيانات الرقمية التي تزوّدنا بمعلومات لا يكتنفها الغموض ولا مجال للشك في صحتها. هذه المعلومات التي تجمَع عن طريق الإنترنت لا تقتصر أهميتها على حجمها الضخم، وإنما في توفيرها أنواعًا جديدة من البيانات، لذلك يوفر محرك البحث غوغل بيانات كثيرة وصحيحة، أي إن أهميتها تكمن في حجمها وجودتها معًا، وتوفر تلك البيانات أنواعاً عديدة: بيانات النصوص، بيانات الصور، بيانات الأجساد، يقول المؤلف: «كما رأينا بالفعل الكلمات هي بيانات، النقرات بيانات، الروابط بيانات، الأخطاء المطبعية بيانات؛ الموز في الأحلام بيانات، نبرة الصوت بيانات، الصفير بيانات، دقات القلب بيانات، حجم الطحال بيانات. أرى أن عمليات البحث هي أكثر البيانات إيحاءً».
إذا كانت البيانات أو لغة الأرقام دقيقة وصادقة فإنها أيضاً يمكن أن تكون مضللة عن قصد أو عن غير قصد نتيجة تعدد الاستنتاجات والاحتمالات ومن ثم الوقوع في فخ الانحياز للاستنتاج المفضل أو التفكير الرغائبي، لذلك فحتى المؤلف المولع بالبيانات يحذرنا من الوقوع في هذا الفخ، وبالتالي لا غنى عن العلوم الإنسانية مهما كانت وفرة البيانات ودقتها.