د. صالح العبدالواحد
حيث إن الأطباء الذين يشرفون على التجارب الطبية قد يكون لديهم مصالح شخصية في وضع نتائج مغايرة للواقع، فقد تم تصميم التجربة الطبية كي تخضع لأقصى درجات عدم الانحياز.
عند اكتشاف دواء جديد، لابد أن يخضع هذا الدواء لعدة تجارب للتأكد من فعاليته على المرضى. ولمنع انحياز بعض الأطباء لدواء معين، فقد تم تصميم التجارب الطبية بحيث لا يمكن للطبيب معرفة من هو المريض الذي يتلقى العلاج الذي اكتشفه، ومن هو المريض الذي يتناول علاجاً وهمياً، ولا يمكن أن يكون هناك علاقة مع الصيدلي الذي يصرف العلاج، فحتى الصيدلي لا يعرف إلا أن المريض س استخدم العلاج رقم ?، والمريض ص استخدم العلاج رقم ?.
وجميع ما يقوم به الطبيب هو تسجيل الاستجابة الدوائية للعلاج. وبعد إعادة التجربة على عدد كافٍ من المرضى، والحصول على نتائج متطابقة من عدة مراكز في العالم، يتم التصريح للدواء بالتداول.
ولهذا فإن الاكتشاف الكيميائي النظري ليس له فائدة دون إثبات الفعالية، وهذا ما يجعل الوصفات الطبية «معتمدة»، بخلاف وصفات وسائل التواصل الاجتماعي.
دور الطبيب لا يتعدى تسجيل البيانات، ووصف العلاج، أما الجهة المشرعة للعلاج فهي التي تقوم بتحليل البيانات ومعرفة من هم المرضى الذين تناولوا العلاج الحقيقي تحت التجربة، ومن تناول العلاج الوهمي. فعندما يصف الطبيب الدواء، فهو لن يعرف هل سيحصل المريض عندما يذهب إلى الصيدلية على الدواء نفسه، أو دواء التجربة (طحين مع سكر)، ولن يعرف الصيدلي الذي يصرف العلاج أياً من المجموعتين هو العلاج تحت البحث، وأياً منها يحتوي أقراصاً وهمية.
يسمى هذا النوع من التجارب (التجربة العشوائية العمياء المزدوجة)، وذلك بسبب عدم معرفة الطبيب، أو الصيدلي أو المريض بمن سيحصل على العلاج ومن سيحصل على قرص وهمي.
تتم هذه الدراسات بهذا الشكل للابتعاد عن أي مصدر شك بأن الطبيب أو الصيدلي يتلقى «رشوة» لتغيير نتيجة البحث رغم أن هذا احتمال ضعيف جدًا، حيث إن هذه التجارب يتم تكرارها في عدد من البلدان.
إن الابتعاد عن أي «مصدر» للشبهة، أفضل بكثير من الدفاع عن سمعة الأطباء وعن الإصرار الإعلامي على نزاهة العمل الطبي. لا يمكن لأحد بعد ذلك اتهام الشركات الطبية بأنها تدفع مبالغ مالية لأي جهة مقابل إثبات نجاح علاج ما في حالة مرضية معينة. فهذا لا يحصل نهائيًّا.
إن هذه التجارب تم تصميمها لقطع دابر الاتهامات قبل وقوعها، ووضع خطة نهائية لإثبات النجاح بعيدًا عن مسلسل الدعايات المأجورة، والابتعاد عن مصدر من مصادر الفساد الاقتصادي والصحي من جذوره.
لقد استغرق البشر آلاف السنين للوصول إلى مصدر موثوق وطريقة علمية صحيحة لتوثيق العلاج المناسب، حتى لا يتم اتهام أحد بالرشوة أو الانحياز أو الواسطة. رغم أن صحة الإنسان لا يمكن أن تكون مصدرًا للتكسب غير المشروع، فمهما استطاع المرتشي من الحصول على مال ليقوم بتزوير النتيجة، سيكون يومًا من الأيام على سرير المستشفى، يتم حقنه بالدواء المغشوش الذي قام بمنح رخصته، ويتمنى حينها لو أنه يستطيع أن يصرف كل ما لديه ليقضي على آلامه.
فهل يمكن للقضاء الاستفادة من «التجارب العمياء» للوصول إلى نظام عادل دون أي شبهات، حيث لا يتم من خلاله اتهام القضاة بعدم استيعاب القضايا، أو يتم اتهامه بالانحياز أو خضوعه للتوجيه وخلاف ذلك؟
بل حتى وصل الأمر إلى اتهام بعض القضاة بأنهم يثقون بما يتم تحريره لهم من المساعدين في الدائرة، حيث لا يزيد دور القاضي عن إصدار الأحكام دون أي تدقيق أو تمحيص، وقد لا يخلو الأمر من وجود الكاتب الفاسد الذي يعبث بالملف، ويتم تقديمه للقاضي النزيه بشكل مغاير للواقع، ليصدر الحكم بعيدًا كل البعد عن العدل.
وهل هناك برنامج يشابه «التجارب العمياء» الطبي في القضاء؟
بالطبع هذا ممكن. وهو مطلب. ولقد قامت المملكة العربية السعودية بالفعل بذلك في مباريات كرة القدم، حيث يتم تعيين قاضٍ (حكم) لا يعرفه أي من الفريقين، بهدف الابتعاد عن أي عامل شبهة، للقضاء من المرافعات الكيدية، والاتهامات الصحفية.
يتم اختيار عدة حكام من مناطق مختلفة في العالم، ويتم تزويد من يقع عليه الاختيار بتأشيرة دخول، وتذكرة سفر قبل المباراة بفترة قصيرة، ليؤدي عمله ويغادر الساحة. لا يمكن لأحد أن يتهم الحكم بالتعامل الودي أو المشبوه مع أي من الفريقين حتى لو أخطأ في احتساب ضربة جزاء.
نتائج تطبيق نظام العدل الأعمى ستكون مذهلة، وسيتم تخفيف القضايا أمام محاكم الاستئناف التي تمر عليها جميع القضايا الابتدائية، حيث لا وقت لديهم لقراءة أي صفحة منها. ولكن، كيف يتم ذلك؟
أقترح أن يتم أولًا تقسيم المحاكم الابتدائية إلى نموذجين. النموذج الأول يستقبل القضايا، ويستوفي جميع طلبات التقاضي وتدوينها، والتحقق من توثيق الشهود ووجود الأدلة، وتحرير الدعاوى بشكل مناسب.
وعند اكتفاء المتداعين، والوصول إلى جلسة الحكم، تنتقل القضية إلى محكمة أخرى، هناك القضاة لديهم جميع صفحات القضية، والأدلة والبينة والإقرارات الشرعية وخلاف ذلك، والقضية جاهزة للنطق بالحكم. يكتفي القاضي بسؤال أطراف الدعوى عن قضيتهم، والتأكد من هويتهم، لينطق بالحكم بناءً على ما هو متوفر لديه من معلومات تستند على الأنظمة التي أصدرها ولي الأمر، وتعتمد في جوهرها القضاء الشرعي.
يتم استكمال الإجراءات وسماع الحكم، وبالطبع لايزال باب الاستئناف مفتوحًا، ولكن سيبقى محدودًا جدًا لأن من كان يعتمد على معرفة القاضي مُصدِر الحكم، للحصول على حكم لصالحه، سيختفي. وبالطبع لن يتقدم لمحكمة الاستئناف حيث إن جميع الأدلة توثق تورطه في القضية.
إذًا الفاسد لن يحاول اللجوء لوسائل الفساد والرشاوى، لأن القاضي لن يصدر له الحكم، ولن يعرف من هو القاضي الذي سيحكم له في قضيته إلا في صباح يوم الجلسة، وستختفي التهم التي يتم توجيهها لفضيلة المشايخ بدون وجه حق.