د.سالم الكتبي
في تصريح لم تتكشف معالمه وأبعاده كاملة بعد، أعلنت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زخاروفا أن موسكو مستعدة لمناقشة سبل الخروج من الأزمة في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي إذا بادر الأوروبيون إلى بذل جهود حقيقية مستقلة تركز على ضمان مصالح المواطنين الأوروبيين بعيداً عن الانصياع المستمر للإملاءات الأمريكية.
الفكرة قد تبدو للوهلة الأولى محاولة روسية لدق أسفين بين حلفاء الأطلسي، أي بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين الذين يدفعون الثمن الأكبر والأكثر حساسية وتأثيراً في أزمة أوكرانيا، ولكن التدقيق في تطورات الأحداث ربما يكشف عن أمور أخرى منها أن الولايات المتحدة قد لا تقف عقبة في طريق البحث عن تسوية سياسية للأزمة، حيث قالت وسائل إعلام أمريكية إن مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان قد حث الرئيس الأوكراني زيلنسكي على إبداء مواقف تعكس الرغبة في إنهاء النزاع بالطرق الديبلوماسية للحفاظ على استمرار دعم الحلفاء الأوروبيين.
لاشك أن قنوات الاتصال الأمريكية - الروسية لم تنقطع طيلة الفترة السابقة رغم تفاقم الصراع في أوكرانيا، لاسيما أن التقارير الإستراتيجية الأمريكية لم تزل تصنف الصين باعتبارها الخصم الإستراتيجي الأساسي، وليس روسيا، وبالتالي فإن لنا أن نتوقع ميل واشنطن بدرجة ما إلى تبريد الأزمة الأوكرانية ومواربة الباب أمام الكرملين في حال أراد إنهاء الحرب بشرط التوصل إلى صيغة مرضية للجانب الأوكراني. الأوروبيون أيضاً قد يكون موقفهم قريباً أو متطابقاً مع الموقف الأمريكي، لاسيما في ظل تداعيات أزمة الطاقة والضغوط الشعبية المتزايدة التي تطالب بالحوار مع روسيا.
إذاً العقبة الأمريكية أمام قبول أوروبا الحوار مع روسيا ليست قائمة في حقيقة الأمر، وما تريده واشنطن قد تحقق في معظمه، ولاسيما ما يتعلق بانكشاف حدود القدرات العسكرية الروسية وتداعي الجيش الروسي بشكل يصعب عليه تكرار التدخل في أوكرانيا لسنوات طويلة قادمة.
الكثير من التحليلات ترى أن الهدف من حث واشنطن الجانب الأوكراني على إبداء رغبة في التفاوض هو كسب دعم الدول الأخرى والحفاظ على الدعم الأوروبي القائم، باعتبار أن رفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي التفاوض مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، يواجه بغضب في معظم دول العالم، التي تعاني اقتصاداتها جراء استمرار الحرب، بمعنى أن الموقف الأمريكي هنا هو مناورة خداعية لكسب نقاط دبلوماسية، ولكنني أرى ضرورة النظر إلى هذا الموقف من زوايا عدة في مقدمتها أن مسألة القبول بالتفاوض هي مسألة بديهية تعزز موقف أي طرف، والعكس صحيح، أما ماوراء هذا القبول والهدف منه، فأعتقد أن واشنطن تتحسب تماماً لرفض الكونجرس مواصلة تقديم دعم لأوكرانيا، علاوة على أن واشنطن تخشى بالفعل حدوث تصدعات في الصف الأوروبي جراء رفض أوكرانيا لأي تفاوض مع الكرملين، كما أن من البديهي أن يكون هناك توجه للبحث في نهاية لهذه الحرب، لاسيما بعد أن حققت العديد من أهدافها الإستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها.
اللافت أن هذه التطورات قد ظهرت عقب توقيع الرئيس الأوكراني مرسوماً في الرابع من أكتوبر يعلن بموجبه أن أي محادثات مع الرئيس بوتين باتت «أمراً مستحيلاً»، وأن المحادثات مع روسيا ممكنة فقط في حال تولي رئيس جديد، وهو ما يضعنا أمام احتمالات بعضها يرتبط ببعض، في مقدمتها أن المتحدثة باسم الخارجية الروسية قد ألقت بالكرة في ملعب الأوروبيين ليس فقط بهدف إحداث شرخ في العلاقات عبر الأطلسي، ولكن أيضاً لتشجيعهم على المضي في تسوية الأزمة مع روسيا والابتعاد عن تعنت الرئيس الأوكراني أو الضغط على الأخير للتخلي عن موقفه. وبموازاة ذلك يمكن فهم الموقف الأمريكي أيضاً في ضوء استشعار واشنطن القلق جراء استمرار الحرب وما تسببه من نزيف في الموارد والعتاد العسكري الأمريكي، وعدم منطقية موقف الرئيس الأوكراني الذي يرفض تماماً التفاوض مع نظيره الروسي.
الخلاصة إذاً أن هناك نوعاً من مؤشرات التلاقي الضمني - ولو من بعيد - في المواقف الروسية والأمريكية على وجه التحديد، وهي مؤشرات لم تتبلور بعد، ولكن مجمل هذه المؤشرات لن تحدث بالتأكيد، شرخاً في العلاقات بين حلفاء الأطلسي لأن هناك بالأساس أزمة ثقة عميقة وستبقى لفترة بين روسيا والدول الأوروبية عقب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وهناك أيضاً حاجة أوروبية ماسة للحفاظ على علاقات تحالف قوية مع الولايات المتحدة خشية تكرار ما حدث في أوكرانيا لدول أخرى في الاتحاد الأوروبي.
وبالتالي من الصعب توقع ابتعاد أوروبا في ظل المعطيات والظروف الراهنة عن الحليف الأمريكي، ومن الصعب كذلك البدء بحوار مع روسيا بمعزل عن موافقة واشنطن، وبالتالي فإن الحديث الروسي عن ضرورة ابتعاد أوروبا عن «الانصياع للإملاءات الأمريكية» لن يحقق الهدف منه على الأرجح، لأن روسيا لم تقدم أي بادرة نوايا حسنة يمكن من خلالها استقطاب الموقف الأوروبي أو حتى إحداث حلحلة في هذا الموقف، كما أن رهانها على الاحتجاجات الشعبية المتزايدة في بعض الدول الأوروبية للمطالبة بالحوار مع روسيا ليس مضموناً، ونجاحه يتطلب البدء بخطوات إيجابية روسية فعلية تضع الحكومات الأوروبية في موقف حرج أمام شعوبها وتدفعها للبحث عن تسوية سياسية للأزمة الأوكرانية.
الأمر المهم في هذه الإشارات أن هناك انفتاحاً متبادلاً ولو على مستوى القول وليس الفعل على فكرة البحث عن تسوية سياسية للأزمة الأوكرانية، ورغم أن من السابق لأوانه القطع بأن هناك نوايا حقيقية للبحث عن مخرج من هذه الحرب، فإن الانفتاح على الفكرة أمر جيد رغم أن نضوجها قد يستغرق الكثير من الوقت والضغوط والتصعيد وغير ذلك.