كنت أزمع السفر إلى القاهرة لحضور معرض الكتاب في دورته القادمة في شهر يناير (2023م)، وكان من ضمن برنامج الرحلة زيارة الأديب والصحفي المخضرم الأستاذ وديع فلسطين؛ للاطمئنان على صحته، وتقديم نسخة هدية له من كتابي (من رسائل العلامة محمد رجب البيومي) ثم تهنئته بمناسبة بلوغه عامه المئة، بعد أن حاصرته أمراض الشيخوخة، ومات كل أصدقائه ومجايليه، ولم يعد قادرًا على القراءة والكتابة، والتواصل مع الآخرين من خلال طابع البريد التقليدي، فإذا بالخبر المؤلم يفجعني برحيله عن دنيانا في هدوء، فبادرت في الحال بالتواصل مع كريمته السيدة هناء؛ لتقديم واجب العزاء في وفاة والدها، الذي عاش عصرًا بأكمله، بأحداثه ومخترعاته واكتشافاته المذهلة، فهو من مواليد عام 1923م، وهو العام الذي توفي فيه الشاعر الرقيق إسماعيل صبري باشا (1855- 1923م) أحد أبرز شعراء مدرسة الإحياء في العصر الحديث، التي تزعمها الشاعر الرائد محمود سامي البارودي.
كانت بداية تعرفي بالأستاذ وديع من خلال ما كان ينشره من مقالات أدبية وذكريات صحفية في بعض المجلات الثقافية، مثل: الهلال، والأديب، والعلوم، والفكر، والضاد، وقافلة الزيت، والفيصل، والمجلة العربية وغيرها، وكنت معجبًا -أيما إعجاب- بما كان ينشره من مقالات مشوقة عن بعض أعلام الأدب والفكر في الوطن العربي وفي المهاجر النائية، ممن عاصرهم وارتبط بهم بصداقات عميقة، ظل طيلة حياته كلها معتزًا بها، لاسيما ما كان يكتبه في مجلة الأديب (اللبنانية) تحت عنوان «حديث مستطرد»، وقد جمع تلك الفصول القيمة فيما بعد في كتاب ضخم عنوانه (وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره)، وهو سفر خالد أودع فيه كل ما يعرفه عن هؤلاء الأعلام من معلومات، وأسرار، ومواقف قد لا نجدها إلا في هذا الكتاب الباذخ في أسلوبه وفي طريقة سرده الجميلة، وإن لم يخلُ من بعض الأغلاط المطبعية الطفيفة.
ويمكن لقارئ هذه الموسوعة أن يستخلص منها سيرة ذاتية للمؤلف وهو يتحدث عن أعلام عصره؛ ففي تراجمه لتلك الشخصيات الكثيرة التي عاصرها وصادق معظمها، نستطيع أن نقف على كثير من ملامح حياته، وتكوينه الثقافي، واهتماماته الأخرى.
وقد استطاع بما وهبه الله من وداعة النفس، ودماثة الخلق، ولين الجانب، والصدق مع الآخرين، واحترام المواعيد، من تكوين صداقات ناجحة مع كبار الأدباء وصغارهم.
كما كنت حريصًا على الاحتفاظ بكل ما يجرى معه من حوارات صحفية، أو بما ينشره من مقالات في بعض المجلات المصرية منذ مطلع التسعينيات الميلادية من القرن المنصرم، مثل: الهلال، والمصور، ونصف الدنيا، ووجهات نظر، وظل لسنوات طويلة يشارك في زاوية «كل الدنيا» في مجلة (نصف الدنيا) النسائية، وروى فيها بعض ما تعرض له من مواقف صحفية وطرائف مدرسية في العهد الملكي، ومن تلك المقالات أشير هنا إلى بعضها: كيف تسببت في تفاقم وباء الكوليرا، منرفا عبيد.. محررة مجلة الطالبة، مغارة (علي بابا) في قصر القبة، زمن الطرابيش، دكتور في المدرسة الثانوية، صفية أبو شادي.. مصرية لم تتأمرك، تجربة مع أهل الفن. تلميذتي النابهة ليلى رستم، شاي الساعة الخامسة.
ويعتز الأستاذ وديع فلسطين كثيرًا بفترة عمله صحفيًا في عهد الملكية، ويرى أنها أجمل فترة في حياته الصحفية، يقول في مقال نشره في مجلة المصور عام 2012م بعنوان «العروبة نعم الخلافة لا»: «وكانت أسعد أيامي كصحفي هي أيام العهد الملكي، حيث كنا نعمل في صحف مملوكة لأصحابها، وليست تابعة للدولة، وكنا أحرارًا نكتب ما نشاء، ولا نعرض أنفسنا للاصدام مع الرقيب- إن وُجد- وكنا نعامل من المسؤولين وغيرهم باعتبارنا مواطنين صالحين».
أصدر الأستاذ وديع فلسطين العديد من الكتب المهمة، وبعضها كتب مترجمة إلى اللغة العربية، ومن أبرز مؤلفاته: قضايا الفكر في الأدب المعاصر، وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره، وله دراسة نقدية عن الشعر المعاصر، يدعو فيها للعودة إلى القصيدة العمودية، ونبذ الشعر الحر أو قصيدة النثر.
التقيت الأستاذ وديع فلسطين 5 مرات، الأولى بجدة عام 2002م أثناء حفل تكريمه في اثنينية الوجيه الشيخ عبدالمقصود خوجة رحمه الله، وثلاثة لقاءات أخرى في بيته بمصر الجديدة، وكان يعيش - آنذاك- بمفرده، واللقاء الأخير في بيت كريمته السيدة هناء، الذي انتقل إليه بعد حادثة الاعتداء من بعض اللصوص، وكان هذا اللقاء أو الزيارة في يناير 2019م.
وفي تلك الزيارة الأخيرة مكثت عنده نحو ساعة، وكان مضطجعًا على سريره، واستعاد بعض ذكرياته الصحفية القديمة، ولاحظت أن ابنته قد هيأت له خادمة ترعاه، وتهتم بصحته، وتنظم مواعيد طعامه ونومه.
تبادلت مع الأستاذ وديع نحو 600 رسالة أدبية، وكان السبب في تعارفنا، وفي عقد هذه الصداقة المباركة، والتواصل بريديا هو الصديق الشاعر د.حسين علي محمد (1950-2010م) رحمه الله، الذي زف إلي في إحدى زياراته له خبر عودة زاوية «حديث مستطرد» في صحيفة الحياة (اللندنية) وزودني بعنوان الأستاذ وديع؛ لأتواصل معه بالبريد التقليدي، فهو صديقه ومن أبرز مريديه.
واستمرت المراسلة بيني وبين الأستاذ وديع سنوات طويلة، وكنا في بعض الأحايين نتبادل أكثر من رسالتين في آن واحد، وآخر رسالة تلقيتها منه مؤرخة في 26 يناير 2015م، وفيها يعتذر إلي بأنه سيكف عن المراسلة؛ بسبب شيخوخته وضعف نظره، وعدم استطاعته الذهاب إلى مكتب البريد، وختم رسالته الأخيرة بقوله: «وكنت أعتقد دائمًا أن عمري قصير، ولم أتوقع أبدًا أن تمتد بي رحلة الحياة إلى العام الثاني والتسعين»!
ولعلي أتمكن مستقبلاً من نشر ما تلقيته من رسائل الأستاذ وديع فلسطين، أو على الأقل اختيار 100 رسالة، إحياء لذكراه وخدمة للباحثين والمهتمين.
** **
- سعد بن عايض العتيبي