أن تحرق كتاباً فأنت تحرق إنساناً، وإن تحرق كتاباً مُصنفاً فأنت تحرق أمة وشعباً.
حدث في العالم صار في التاريخ قديماً، لو قدر عليه ألا يحدث لتغير تاريخ البشرية، وفلك الإنسانية، وما الحدث إلا ناتج ظروف سياسية وتاريخية واجتماعية واقتصادية وعلمية وطبيعية تغربل تحتها الحدث وعاش التقلبات الزمانية بين طياتها حتى صار شيئاً يشار إليه فيذكر والسؤال المطروح: ماذا لو تُحرق كتب الغرب والمسلمين في كل من بغداد وقرطبة وغيرها من أقطار العالم؟ ما الذي يفترض أنه حدث؟ بادئ ذي بدء لا بد من الإشارة إلى عدوين لدودين ابتلى بهما كل من بلاد العرب، وأقطار العالم الإسلامي وهما: التتار والنصارى من بلاد الأوربيين وأما التتار فهم ينقسمون إلى قسمين الأول منهما: فئة عملت على القتل والذبح وسفك الدماء، وثانيهما: فئة طفت على وجه اليابسة فأحرقت الكتب، ودفنت العقول، وعلّ هذا الثاني مقارنة بالأول أن يكون أخطر وأفتك من سابقه، فالتتار المغول أمة وحشية تتقاتل كقتال الحيوانات، وهدفها كان التدمير والإبادة والتحطيم بل قل الفساد المستشري بأجمعه وشموله، ومن ذلك حرق مكتبة بغداد - بيت الحكمة العباسية - وهي أعظم مكتبة في تاريخ الإنسانية قاطبة، وهي الدار التي حوت عصارة الفكر العربي والإسلامي فيما يربو على ستمائة عام جُمعت فيها علوم وفنون وآداب ومعارف من شرعية واجتماعية وتاريخية واقتصادية وأدبية وشعرية بل قل إن شئت؛ إنها علوم الإنسانية أجمع، وإذا أضفت لكل ما سبق فن الترجمة والتعريب لعلوم الفرس والهند واليونان بلغات عدة من سريانية – لاتينية وسنسكريتية، علمت حقاً وعقلاً أنك تتحدث عن مكتبة عظيمة في التاريخ، وكانت خسارة العرب والمسلمين فيها مرة مريرة، وأما سابقتها مكتبة قرطبة الأندلسية الإسلامية فقد طافتها نفس التجربة إلا أنها سبقت مكتبة بغداد بعشرين عاماً، ولم يحدد التاريخ عدد ما احترق فيها بدقة وتأكيد، بل قدروا المجلدات المحترقة لماماً فهي تقدر بملايين المجلدات، وأول دليل على ذلك أن نهر دجلة وهو في مساحته قريب من نهر النيل العظيم، وحينما أسقط التتر بغداد أرادوا العبور فذهبوا إلى بغداد والقوا عشرات الكتب بل قل الملايين منها في النهر حتى صارت جسراً يتمكنون من خلاله قطع الشرق والوصول إلى الغرب، وحينما أغرقت المكتبة ظل نهر دجلة أسود اللون لمدة ستة أشهر خليطاً بمداد الكتب التي كتبت وألفت وصنفت.
ومكتبة طرابلس في لبنان يحكي لنا التاريخ على وجه التقريب أنه أحرق فيها ثلاثة ملايين مصنفا وقع بين أيديهم.
ويذكر المؤرخ الاسباني دوبلس: (أن ما أحرقه الإسبان من كتب الأندلس ألف ألف وخمسمائة ألف مجلد أي مليون ونصف المليون مجلد كلها خطتها أقلام العلماء العرب الأفذاذ والكاردينال سيسنروس عام 1501م أمر بحرق مكتبة مدينة الزهراء، فقد كان فيها ما يزيد عن 600000 مخطوط، وكان الجنود الذين تم إيكالهم بالحرق يخفون بعض الكتب لفرط جمالها وتفردها، فقد خطت بماء الذهب والفضة، وذكر المؤرخ الفرنسي مياردو أن هذا الأمر يكاد أن لا يصدق لو لم تنص عليه كتابات المعاصرين.
وحينما دخل النصارى من أوروبا بلاد العرب والمسلمين ترجموا الكتب العلمية ونقلوها من اللغة العربية إلى اللاتينية .
وحينما سقطت طليطلة قبلة المعرفة ومنارة العلم، حرص نصارى أوروبا على الترجمة والنقل والتعريب، وصارت هذه العلوم العربية والفنون الإسلامية قاعدة لبناء العلوم الأوروبية في الطب والفلك والرياضيات. بل هي مرتكز النهضة الأوروبية، يقول وزير خارجية اسبانيا (لولا العرب لم نكن لنعرف معاني الفروسية ولا نغسل وجوهنا كل يوم)، ويقول غوستاف لوبون: ( العرب هم الذين فتحوا لأوروبا ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية بتأثيرهم الثقافي فكانوا ممدنين لنا وأئمة لنا ستة قرون).
والمترجم الإيطالي جيرارد الكيموني قدم من إيطاليا سنة 545هـ وبقي في طليطلة حتى وفاته 582هـ -1187م، وكانت له جهود عظيمة في الترجمة فيقال: « أنه ترجم أكثر من مئة كتاب وقيل: سبعة وثمانين كتاباً وكانت كتبه التي ترجمها لأبرز علماء الإسلام مثل: الرازي وابن سينا والخوارزمي وابن الهيثم وجابر بن حيان والفارابي والكندي وثابت بن قرة، فتراجمه شملت أمهات الكتب العربية الكبرى، حيث ترجم أربعة وعشرين كتاباً في الطب، وسبعة عشر كتاباً في الهندسة والرياضيات والبصريات، واثني عشر كتاباً في الفلك، وسبعة كتب في الكيمياء، وقد حوت هذه الكتب علما جماً من علوم العرب والمسلمين قاطبة، وجواب السؤال المطروح في بداية المقالة وهو: ماذا حدث لو لم تحرق كتب العرب والمسلمين؟ فهو:
لو لم تحرق مكتبات العرب والإسلام لكنا اليوم نتجول بين مجرات الفضاء، كما قاله العالم الفرنسي (بيير كوري) الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1902م، - وقال أيضاً: (تمكنا من تقسيم الذرة بالاستعانة بثلاثين كتابا بقيت لنا من الحضارة الأندلسية)، ثم يسترسل: (ولو كانت لدينا الفرصة لمطالعة المئات والآلاف من كتب المسلمين التي تعرضت للإحراق لكنا اليوم نتنقل بين المجرات الفضائية).
مراجع المادة:
) لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم، محمد سيد بركه، البيان 27 مايو 2012 . عالم تعلم - جامعة الحياة، الاثنين 8 فبراير 2016م.
) الأندلس من الفردوس المفقود إلى أرض الأوهام، د. أحمد بن حامد الغامدي، منظمة المجمع العلمي العربي، أغسطس 16/2020
** **
حنان بنت عبدالعزيز آل سيف - بنت الأعشى -
hanan.alsaif@hotmail.com