ستتحول المأساة في هذا العمل الروائي إلى كوميديا مشبعة برائحة الموت ومع ذلك فهي تحمل في طياتها أنشودة تدعو إلى التفاؤل والطمأنينة.
كاتب رواية «النحل الرمادي» الروائي أندري كوركوف يعدّ أحد أشهر الروائيين الأوكرانيين المعاصرين. ولِد عام 1961 في مدينة سانت بطرسبرج بالاتحاد السوفيتي، عاش طفولته المبكرة في كييف بأوكرانيا، يتكلم ويكتب باللغة الروسية ويزعم انتماءه للثقافة الأوكرانية.
في أحدَث رواياته «النحل الرمادي» التي صدرت في نسختها الفرنسية عن دار النشر ليان ليفي بفرنسا في فبراير 2022، يصطحب أندري كوركوف القارئ في رحلة تعود أحداثها إلى عام 2017 ويتردّد صداها بقوة في جميع أنحاء العالم جرّاء مأساوية الحرب المستعرة بين روسيا وأكرانيا.
رواية «النحل الرمادي» ليست كتابًا عن محاربين بل عن مدنيين تحملوا ويلات الحرب ومرارة الحياة وشظف العيش وأصبحوا بين عشية وضحاها مشردين بلا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم، بأسلوب يتّسم بالإبداع الفني والنظرة الساخرة. يسلّط الروائي أندري كوركوف الضوء على الأرض التي تتّسم باللون الرمادي. ستتحول المأساة في هذا العمل الروائي إلى كوميديا مشبعة برائحة الموت ومع ذلك فهي تحمل في طياتها أنشودة تدعو إلى التفاؤل والطمأنينة.
ربما يكون من المستغرب في رواية أندري كوركوف «النحل الرمادي» أن يتابع القارئ أحداث المعارك في أوكرانيا ضمن خطين متوازيين: الأول خيالي والثاني واقعي. ينحاز الكاتب إلى الخيار الخيالي ليكون على مسافة متساوية من المعسكرين الروسي والأكراني في منطقة دونباس حيث تتسم حياة السكان بالأنانية والأحقاد. في ظل هذا الصراع الدائر بين الجانبين، يطرح الكاتب على لسان أحد أبطال الرواية هذا السؤال: كيف أحمي نفسي؟ مَن الذي يجب عليه أن يبادر باتخاذ خطوة إيجابية تجاه سكان دونباس سواء كانوا من الأصدقاء /الأعداء في كلا الطرفين.
أحداث رواية «النحل الرمادي» تدور في المنطقة الرمادية في دونباس وتحديدًا في قرية مالا ساروجراديفكا على خط المواجهة منذ عام 2014 بين الانفصاليين الأوكرانيين الموالين لروسيا والجيش الحكومي الأوكراني. يعيش في هذه المنطقة اثنان من السكان في أوائل الخمسينيات من العمر تحت القصف المدفعي دون مياه وكهرباء وغاز وفي ظل نقص حاد لكل ما هو ضروري لهما للبقاء على قيد الحياة. الشخص الأول اسمه سيرجييتش والشخص الثاني اسمه باشكا، لم يكونا أصدقاء في مرحلة الطفولة لكنهما اضطرا للعيش والتعاون سويًا حتى لا يغرقا في بحور الوحدة والألم. تربطهما علاقة مؤقتة ومع ذلك فهما غير قادرين على أن يعيش كل منهما بعيدًا عن الآخر. ولأنهما يقيمان في المنطقة الرمادية المتنازع عليها بين الروس والأكران فإنهما مجبران على خلق علاقة تتسم باللون الرمادي لا هي ضد ولا هي مع، فعلاقات كل منهما مع الأصدقاء/ الأعداء من الروس والأكران أيضًا تعتبر هشة، إذ إنها تتشابه مع علاقة الدولة الروسية بالدولة الأكرانية.
من أجل البقاء على قيد الحياة، ستتحول حياتهما اليومية لصراع مضني وهما يبحثان عن الحاجات الأساسية التي لا يستطيع أن يعيش بدونها أي إنسان. تتناثر جثث الجنود في شوارع القرية دون أن يتمكن سيرجييتش وباشكا من تحديد المعسكر الذي ينتمي إليه هؤلاء القتلى. قد يتفق بطلا رواية «النحل الرمادي» على أن العيش في أمان نسبي في هذه المنطقة الرمادية أفضل من الانحياز إلى أحد طرفي النزاع، ومع ذلك يميل باشكا إلى الروس شيئًا فشيئًا ويتمكن من الحصول منهم على المواد الغذائية، في حين يتعاطف سيرجييتش مع المعسكر الأوكراني. يعيش بطلا الرواية بمفردهما في هذه الأرض الخالية من المدنيين وبآرائهما المتباينة حول الصراع الروسي الأكراني على هامش المجتمع في هذه القرية الصغيرة في المنطقة الرمادية التي تقع بين الجيش الأوكراني من ناحية والانفصاليين الموالين لروسيا من ناحية أخرى.
يخاف البطلان من كل شيء، الخوف يؤثر على حياتهما اليومية ويسيطر عليهما، إنهما يخافان من صوت الانفجارات ومن الألغام الأرضية ومن السير في الشوارع، من الفيروسات ومن البكتيريا ومن الماء الذي يشربانه والهواء الذي يتنفسانه ومن قسوة الصراع الدائر بين المعسكرين الروسي والأوكراني، وبما أن حبال الخوف التي لا نهاية لها تقيد حركتهما وتكاد تشلّ تفكيرهما فقد أصبحا بلا حول لهم ولا قوة ولسان حالهما يقول مع الشاعر الكبير فاروق جويدة:
السقف ينزف فوق رأسي
والجدار يئن من هول المطر
وأنا غريق بين أحزاني تطاردني الشوارع
للأزقة للحفر
في الوجه أطياف من الماضي
وفي العينين نامت كل أشباح السهر
والثوب يفضحني وحول يدي قيد لست أذكر عمره
لكنه كل العمر..
أحد أبطال رواية «النحل الرمادي» يقول لنفسه عندما تنفجر نافذة في حي مجاور: هذا الأمر لا يهمني إنه ليس في بيتي. ضمن هذه الأجواء الاجتماعية والنفسية المحطمة تظهر بيوت نحل سيرغي سيرغيتش بحاجة إلى الحرارة والأزهار لإنتاج العسل الذهبي الثمين الذي يمكن بعد ذلك استبداله بالماء أو القليل من الطعام. لكن النحل هنا خائف من أصوات الانفجارات، سيقبع النحل أسيرًا داخل بيوته، وبينما يتم الاستيلاء عنوة على واحدة من بيوته لأسباب مرضية غامضة تتحول بيوت النحل الأخرى إلى اللون القاتم وتستقي لونها من لون المنطقة الرمادية.
يغادر سيرغي سيرغيتش منزله بحثاً عن ملجأ للنحل. يقوده هذا البحث إلى منطقة أكثر أمانًا في شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا إليها وتسكنه أغلبية فقيرة من الناطقين بالروسية. سيتابع القارئ مغامرته الربيعية عبر المروج المزهرة في جبال القرم الرائعة بعيدًا عن أصوات القنابل، يأخذ معه بيوت النحل في سيارته القديمة من نوع لادا في رحلة مليئة بالمغامرات الكوميدية المأساوية. يشعر سيرغي سيرغيتش بالقلق من رؤية النحل يتحول إلى اللون الرمادي التي تشبه المنطقة التي تقع فيها قريته.
ختامًا يتطرق الروائي كوركوف في رواية «النحل الرمادي» إلى عالم ما بعد الاتحاد السوفيتي، أي إلى الإمبراطورية السابقة التي تم تقطيع أوصالها ليس إلى دول أو مناطق ولكن إلى أجزاء متفرقة وأشلاء مبعثرة تغذيها التحولات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية والتحيزات السياسية المتعصبة التي تنتشر في كل مكان.
** **
- د. أيمن منير