د. شاهر النهاري
لا ينسى حلزون فضل أستاذ التربية البدنية، إطلاق هذا الاسم عليه، حتى أنسى الجميع اسمه الحقيقي، فكان يحمل الكرة أينما حل، ويلتف بها كالحلزون، ويسكنها بين قدميه أثناء الحصص الدراسية ويبدع في تمريرها لبعض القريبين من زملائه، عندما يتجه المدرس للسبورة.
حلزون لم يكن يسمع في صدفته إلا صوت بحر ملعب المدرسة، ولو بين الحصص، يشكل فريقا، ويلعب، ولو في أضيق الأمكنة، حتى أصبح نجما، ليس بحرافة لعبه، ولكن بما يثيره من ضجيج، ويفتعله من ترتيبات، فهو قائد الفريق الساطي، وهو الحَكم العدل، وهو الحارس الصمام، والبديل الجاهز، حتى ولو كلف فريقه ضربات جزاء وهزيمة.
حلزون كان مفتونا بتنطيط الكرة، وكانت أحلامه التفافات طولية، وعرضية وانعكاسات خلفية لا تتوقف عند خط، وكم يتخيل أنه صخرة الدفاع، والسهم الملتهب، والجناح الطائر، والوسط المغذي، ورأس قناص الرفعات، وحتى حارس الحصن الأمين.
متابعته للصحف والإعلام لم تكن مكتملة الحروف العسيرة عليه، فيتصفح الصور، ويتابع التلفاز، وينتقد، ويحدد التبديلات ويضع الخطط للفرق الكبيرة قبل النزال، ويجد نفسه مرات يحلل المباراة ويكشف الحسنات والعيوب في خطط المدربين، وفي أداء اللاعبين وأخطائهم، وكم يجد نفسه معلقا رياضيا، يشرح مميزات النقلات، ويصرخ بملء صوته حال ضياع الهجمة، أو ولوج هدف.
الدراسة لم تكن همه، شغلته عنها أحلام بلوغ النجومية، وتوقيع العقود، والبروز على الشاشات، وكسر الأرقام، وتصارع السماسرة عليه، وساعتها سيجد من يعتني بأحواله ودراسته ومنزلته، ومن سيهبه الشهادات الفخرية.
في فجوات الدراسة يزداد لعبا، وفي هجعة البيت يقلق أهله بالقفز ولو فوق حد الدربزين، وفي الحارة، له ألف خطة ورفيق، وفريق، وسعادة طموحات لا تتوقف.
وينهي عقده الثاني دون أن يكمل دراسته، مستمر في طموحه، بنيل الكرة الذهبية، لا يثنيه عنها إلا الموت.
يسهر لياليه يتابع مباريات مهما كانت معادة، ويتعنى لحضور مباريات في ملاعب بعيدة، وهو لا يملك أجرة الانتقال، ولكنه ابن مستديرة أنا استدارت فوق المستديرة.
تتعاظم جراح قدميه وكدمات ركبتيه، ولا يقتنع مكتشفو المواهب في الحارات بموهبته، إلا أنه يتصيد حضورهم، بروحة وجيئة، ويقفز لخطف أنظارهم، ومهما تضاحكوا من حركاته، يظل يقينه بأنهم يحاربونه.
هل المشكلة في اسمه؟ لقد سأل واستشار، وفكر في تبديل اسم أصيل، بمسمى عصري، ولكن ثقته الحماسية تصمد وتعاند، والرغبة في جوفه لا تنطفئ، والحياة قصيرة، ولا بد له من قرار، خصوصا وأن سنوات شبابه تتقدم، وزملاء ملاعب حارته يكبرون ويرحلون، بينما يجد نفسه بفارق الطول يلاعب إخوتهم الصغار.
أحواله المادية تزداد ترديا، فلا عمل، ولا مستوى تعليمي يكفي الحاجة، وفي بيته، لم يعد أحدا يحتمل ضجيجه وبعده عن الواقع، وعدم حمل المسؤولية، ومعاناتهم من هجمات على محافظهم، وقت المباريات المهمة، ليشتري تذكرة وسيجارة، ووسيلة انتقال للملعب.
في منطقة المتحين، مساكين أهله حينما لا يتخيلون طموحاته، وأين سيكون قريبا في يقينه، فهو يمتطي في جوفه خيول أحلام مسرجة ستحمله إلى كؤوس العالم، وتنيله الكرات الذهبية، والتي يستحقها، مثل نجوم كبار نالوها بدعم وتزكية!
الخلل ليس فيه، ولكن في وجهات نظر حساده، وعدم تفهمهم بأن الموهبة الحقيقية لا تظهر، إلا بعد معاناة وإصرار.
وبين رفعة، وتسديدة في الشارع الخلفي، يفاجئه صديق طفولته، الذي هجر حيهم قبل سنوات طويلة.
لا بد أن أحداً حكى له حكاية معاناة الأسرة، فتقدم منه، وبش في وجهه، وحلزون يلتوي خجلا من فروق بينهما، جعلته يتمنى الكرة مصباحاً سحرياً بيده، يثير الغبار ليختبئ، ولكن الأمر حقيقة أكثر من صور تجول في مخيلته.
سلام حريص مقنن، وتنفيذ ضربة جزاء للفراغ، وسؤال مخجل من الصديق وتعريف بمنصبه، فهو إداري بالنادي الكركمي، وهو يقدم له دعوه للالتحاق برابطة تشجيع الكركم، ويطمئنه أن الحالة هناك أفضل من اللعب في عنت الطرقات، وملاحقة مسار كرة أحلام شاردة.
لقد وعده بمصروف جيب، وتذاكر مجانية للمباريات، وانتقال بالحافلات، وحضور أهم الدورات، والظهور على الشاشات بالمظهر الذي يرتضيه، وفوق كل ذلك سيصبح عضوا فاعلا في ترديد الهتافات، وسيتمكن من مقابلة والتعرف بإداريي ونجوم الفريق، والتصوير معهم، والمهم إثبات مكانته مع اللاعب الثاني عشر.
غضب حلزون من دعوة صديقه، التي حطمت ما تبقى في جوفه من صحون حلويات، وجرح مشاعره بزجاجة الواقع، ليستسلم ويفقد طموحه، وقناعته، وكينونته، التي ينتثر أمامها حلمه بالكرة الذهبية.
كان كلام صديقه وإصراره حلزونيا، ففكر، ثم عاد وتموضع واستعد لهدف العمر.
وما يدريك فربما يصبح جزءاً حساساً من احتفاليات الحماس والدعم، والمؤازرة، وربما ينال حظوظا في السبق يوما ويصبح قائداً لرابطة تشجيع المنتخبات الوطنية، ويشعل بحنجرته ويديه الحماس، ويشارك في حوز القادم من البطولات، وفوق كل حلم فصورته، سترتسم على الشاشات، وتستعاد ولو بعد عشرات السنين.
الفرصة الآن تلوح سانحة، وحينما ترحل، فلا تعود، وبعض قطرات الواقع، قد تكون أفضل من بحر من الخيال.
وتمر الأيام، وينتظم مع الرابطة، يحافظ على متانة حباله الصوتية، ويرتدي الملابس الكركمية، وصورته تظهر في بعض المباريات على أطراف الحماس، ويعود متبخترا لأهله يشير إلى مكان جلوسه ويعاتب ظنونهم، وكلامهم القديم، باستعجال مستقبل لم يروه بجلاء.
شهور تدرج فيها مع المهنة الحماسية، بين تصفيق وغناء وزعيق، حتى استحق بجدارة أن يعطى طبلا كركميا، يقرع عليه بأصابع كانت تتفجر بالخدوش، فأدمن شرائط الجروح، وهذا خير دليل على إخلاص حلزوني نادر.
لقد نسي طموحاته القديمة، وشقاء قدميه بالكدمات، وأصبح يرقص بثوبه الفضفاض، وهو يطرق على طبلة الحرب الكركمية، ويتخيل سطحها كرة ذهبية لا يدرك قيمة بهاراتها، إلا من توسط حماس الحشود بهدف متوحد في استحقاق النصر، والتشكيك والتبرير عند الهزيمة.