سهام القحطاني
إذا الليل أضواني بسطت يدّ الهوى
وأذللت أدمعي من خلائقه الكبر
تكاد تُضيئ النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصبابة والفكر.
-أبو فراس الحمداني-
ارتبط الحب «بالشر» في بدايات الفلسفة من خلال «المأساة»، ولذا كانت نهايته دومًا تُدمر «بالتضحية»، ولعل هذه الرؤية السلبية للحب التي حولته إلى «الابن الضال في عائلة الفلسفة» ارتباطه بالقصة الأولى للبشرية «قصة أدم وحواء» بأن الحب هو سبب غواية آدم وخروجه من الجنة، وهو ما يُضيف الحب إلى سلالة الشر والشيطنة، كونه مدخلاً سهلاً يتسلل الشيطان من ثقوبه.
ولنبدأ «بالهوية البصرية للحب تلك الهوية الخالدة حتى اليوم» «كيوبيد» التي روّجت له الأساطير والفتى أو الشاب الذي يحمل العديد من الرموز والدلالات، رسول المحبة المجنح الحامل للسهم والقوس الذي يصيب بسهمه القلوب فيقعون في الحب الجنوني، وهذه الهوية البصرية للحب كانت دلالات إحداثياتها تختلف حسب العصر الذي تخضع فيه لسلطتها.
ففي العصر المسيحي كان كيوبيد «شيطان الرذيلة»، فوضى الرغبة، فكان كما صورته الفلسفة المسيحية يرمز إلى العقل الفاسد وقوسه إلى الخداع وسهامه إلى السم، ولذا كان يُصور عاريًا ليكون جليًا للجميع فيسلموا من خداعه.
ورغم أن كيوبيد هو «إله الحب» لكنه لا يمتلك قوة خاصة به فهو مُسيّر وحينًا مضطهد أو محكوم بسلطان غيره، منذ بدء وجوده.
كيوبيد فارس الحب هو ابن «أفروديت» إله الحب والجمال، وهنا بدأت مشكلة كيوبيد فارس الحب مع الحب، فقد أحب الفتاة «سايكي»، وهنا بدأت مشكلة كيوبيد إذ إن سايكي اشتهرت بجمالها النادر، هذه الجمال التي جعلها أقرب إلى جمال الآلهة فأصبحت سايكي مصدر اهتمام الجميع وأصبح الرسامون يخصصون لها قوالب فنية خاصة بجمالها مما أشعل نار الغيرة في قلب أفروديت التي ابتعد عنها اهتمام الناس بجمالها لمصلحة سايكي، وكانت نتيجة هذه المنازعة الجمالية بين سايكي وأفروديت رفض الأخيرة أن يرتبط كيوبيد بسايكي، وحتى عندما قرر كيوبيد أن يرتبط بسايكي أوجد حيلة أن يكون دومًا بجوارها «غير مرئي» حتى لا تكتشف سايكي شخصيته ويصل الخبر إلى أفروديت، وعندما علمت بعد ذلك أفروديت بارتباط كيوبيد بسايكي ألقت عليها لعنة «النوم» حتى لا يستطيع كيوبيد التواصل معها.
إن سلسلة الأحداث في أسطورة كيوبيد لاشك أنها تحمل العديد من الدلالات من أهمها ارتباط الحب بالشقاء والخطيئة، وعلاقة المرأة بالحب والشر أو الخطأ الذي قد ترتكبه لإفساد كمال ذلك الحب أو استغلال ذلك الحب للوقوع في الخطيئة.
أفروديت كانت سببًا في شقاء حب كيوبيد لسايكي، وسايكي بدورها كانت سببًا في شقاء كيوبيد كونها كانت تمثل الاختيار الصعب بينه وبين والدته.
وعلاقة المرأة بالحب غالبًا ما تجدّول بالنسبة للرجل في خانة الألم سواء في صيغته الفردية الخاصة أو الجمعية ذات الأثر الشمولي.
في حكايات الحب «السامة» يبرز اسم «هيلين» المرأة التي باسم الحب كانت السبب في حرب طروادة دامت «10 سنوات»، هيلين في أسطورة حرب طروادة لا تمثل رمزية الحب بل وتمثل «رمزية الخيانة» عندما فرّت من زوجها «منيلاوس» لترافق «باريس» بعد أن وقعت في حبه وسافرت معه إلى طروادة لتكون سببًا في اندلاع حرب استمرت 10 سنوات انتهت بسقوط طروادة.
مثّلت الفلسفة دورًا كبيرًا في تحويل الأسطورة إلى أدب «واقعي» وإن لم تخلصّه تمامًا من «فكرة الخرافة»، وذلك من خلال «المأساة»، فالحب في المأساة ينتقص من «القيم والسلوك النبيلة»، كما أنه اختبار لمثالية الاختيار والقرار ما بين «الحب كرغبة شخصية» و»الواجب المتمثل في حماية مجموع القيم والسلوك النبيلة» التي كانت دومًا ما تُعرض في «قالب التضحية» والنهاية الحزينة لحكايات الحب.
والتضحية بالحب مقابل حماية مجموع القيم والسلوك النبيلة كانت «تطهيرًا للذات» من خلال «المحاكاة» أو ما سُمِّيتْ بعد ذلك «بالدراما».
وإذا كانت المأساة أجبرت الحب أن يكون دائمًا في زاوية التضحية باعتباره في أصله «مفسدة للعقل والذات»؛ لأنه يُقدّم أفضلية ملذات الجسد على العقل والروح، لذا كان هو دائمًا الحلقة الأضعف في القيم والسلوك النبيلة.
ففي مرحلة لاحقة انتقل الحب من «التضحية» إلى «عقاب»، عقاب لطرفي العلاقة الرجل والمرأة، وهذا العقاب غالبًا ما يظهر في الأدب، وله أشكال عدة منها؛ المرض أو الألم أو الحرمان أو الجنون وأخيرًا الموت.
وما ذكرتك النفس يا بثن مرة
من الدهر إلا كانت النفس تتلف
إلى اليوم حتى سلّ جسمي وشفني
وأنكرت من نفسي الذي كنت أعرف.
«جميل بثينة»
فأقسمت لا أنفك أبكيك ما دعت
على فنن ورقاء أو طار طائر.
«ليلى الأخيلية».
«الحب بلا أمل» هو العقاب الذي يتكرر في حكايات الحب، ولعل لهذا العقاب ما يفسره لأن الاكتمال يُفسد بكارة الحب، لأن الاكتمال يخنقه بإطار الصلاحية والتزمين، يُغلق مساحة إحالاته وإيحاءاته، يُأنسنّه؛ ينزع عنه الصراع وجدلية الخطيئة والشر المحتمل، هذه الثيمات التي يحملها كيوبيد في كنانته ليحوّل الحب إلى «فلسفة اللعنة» على كل من تُصيبه سهامه.