لكلّ حرب أسباب معلنة وأخرى خفيّة. وقد عرف تاريخ الإنسانيّة آلاف الحروب الدّامية، التي كان لها أجندات سياسيّة وأهداف اقتصاديّة وجيوبوليتيكيّة ودينيّة وعرقيّة وتوسعيّة إحلاليّة. ليست الحرب في منطقتنا العربيّة أمرًا مستهجنًا، فقد تعوّدت شعوب المنطقة على أصوات القصف واختراق جدار الصّوت وقد كانت نكبة فلسطين أوّل حادثة معاصرة تصدر للبشر تهجير شعب من أرضه. لكن أن تشهد أوروبا في العصر الحديث ما تشهده أوكرانيا، يجعلنا نتوقف غير مصدقين أنّ تلك المشاهد ليست في حلب أو غزّة أو بيروت أو صنعاء، فقد كادت أوروبا أن تنسى الحرب، وهي تصدر إلى العالم نموذجَ الرفاه والديمقراطيّة، حتّى أصبحت ملاذًا لملايين المهجرين الحالمين بتغيير واقعهم في بلدانهم.
الحرب في الأساس هي حرب على الطّاقة. طاقة الاستحواذ على شيء ما هو من منظور المتقاتلين يستحق التضحيّة، كالأرض والنفط والغاز الطّبيعيّ وغير ذلك. الحرب في أساسها حرب من أجل التفوّق والسّلطة والهيمنة المكانيّة التي تستتبع غيرها من أوجه الهيمنة. فهل إذا عرفنا أنّ المصدر داخليّ ستبقى طبول الحرب تدقّ رقصة الموت؟ وكيف يسهم كلّ واحد منّا في إشعال حرب خارجيّة أو إخمادها؟
إذا كانت الحرب تحدث لأنّ عقليّة ما رأت في غيرها تهديدًا لوجودها، أو لأنّ بلدًا اختار ما لا يتوافق مع تطلّعات جيرانه، أو لأنّ دينًا ما يحاول فرض إيديولوجيا يصدّق بها تفوّقه وصوابيّة رأيه على غيره، إذًا فأيّ حرب تحصل اليوم أو حصلت في الماضي هي انعكاس لحروبنا الدّاخليّة؛ بمعنى أنّ وهم الانفصال عن الآخر سببها...الخوف هو السبب.
يخوض كلّ واحد منّا حربًا داخليّة مع الخوف. نخاف فنتخذ مواقف توهمنا بالحماية، فنرفض ونتشرنق ونطلق الأحكام، يجعلنا هذا الأمر نشعر بأنّ دائرتنا محميّة، لا يخترقها دين الآخر ولا عرقه ولا لونه ولا شكله، نحن في شرنقتنا الخاصّة، متفوقون على الآخرين في كلّ شيء، نربّي أبناءنا على أنّهم متفوقون وأذكياء وأفضل من غيرهم، ونحرص على أن يتعاملوا معهم كأنّهم أعداء « إذا ضربك أحد فاضربه» وإذا اختار الأطفال عدم الضّرب سنحكم عليهم بالجبن. الحرب انعكاس لما هو فينا. نحن أعداء أنفسنا إذ نعادي الآخرين من خلال أحكامنا المطلقة ضدّهم، ومن خلال نظرة التفوق التي ننطلق منها نحوهم. لكن هل هناك حل ممكن أن ينهي دائرة الحرب؟ ما هو الدّور الذي يمكن أن يؤديه كلّ منّا كجزء من الحلّ؟
يتعاطف المجتمع الإنسانيّ مع مشاهد المهجرين وبكاء الأطفال، تسارع هيئات الإغاثة والجمعيّات الحقوقيّة إلى إمداد من تهدد الحرب حياتهم بالمعونات، لكن إذا كانت الحرب في أساسها تقوم على صراع داخليّ رافض للآخر شكلًا وفكرًا ووجودًا مغايرًا، فهل إذا ما سارع المجتمع الذي يفرض الحرب إلى التخفيف من حدّة الموت، سينجو الإنسان؟ أم ستبقى الصّراعات تلف في دائرة الضديّة، من يشنّ الحرب ومن يخفف من ألمها، أليس في ذلك تكريس لواقع الحرب؟ كأنّما نعطيها مسكنًا لا نقتلع الورم. فما الحلّ إذًا؟
ارتفع عن خوفك وتفوقك غير المبرر، ادخل في طاقة الوحدة مع الجميع، الأسود والأبيض والغنيّ والفقير المشوّه والمتديّن واللا مبالي رجالًا ونساء أطفالًا وشيوخًا، الكلّ واحد في الأساس، وربّما كنّا أو سنكون يومًا أولئك الآخرين، ونمرّ بالتجارب نفسها، فما الذي يجعلنا مميّزين حتّى نسلب الآخرين روعة الاختلاف ونحرم الحياة ثراءه؟
سيقول قائل إنّ هذا مجرّد مشاعر طفوليّة أو أحلام ورديّة، وإنّ السّياسة لها معايير مختلفة، أقول لو أنّ الكون لا يفهم لغة الطّاقة، لما غيّر الملايين واقعًا يحيونه كان يجثم على مسار حياتهم ويضيّقه، لما استطاع المبشرون والأنبياء والمرشدون والعلماء التغيير، الكون يقرأ كلّ شيء طاقة، فإذا ما غيّرت طاقة الرّفض فيك والخوف والصّراع ستسهم في تجلية أثير الأرض من تراكمات السّلبيّة الجالبة للحروب والنزاعات، .. اجعل التردد الطّاقي الخاص بك مختلفًا. إسأل نفسك هل أنت كإنسان فرد تحيا سلامك الدّاخليّ؟ ما هي الطّاقة التي تطلقها نحو الكون؟
حين ستركز وعيك على الجانب المظلم، ستحرّره نحو النّور، ستحرّر نفسك من الأحكام على الآخرين، وتشعر بتدفق سلامك الدّاخليّ، تخيّل لو أنّ الجميع يصل إلى ذلك؟ هل سيبقى للحرب مفردة في أيّ لغة؟ وعلى ذكر اللغة، أليس غريبًا كيف يتلقّى الرؤساء القائمين على القرار في العالم أرفع مستويات التعليم وتجارب الانفتاح على ثقافات كثيرة، والتدريب الدبلوماسيّ الذي يمكنهم من إيجاد الحلول السلميّة، ولا يستطيعون إقامة حوار جادّ حول قضايا مصيريّة، وحلّهم الوحيد الأوّل والجذريّ هو شنّ الحرب؟
تلك الحقيقة تؤكد أنّ الإنسان واحد في كلّ زمان ومكان، وأنّ التربية على التفوق وال كراهية والعنصريّة والتبعيّة ممارسات يقوم بها الجميع على اختلاف الجغرافيا أو التاريخ أو الدّين...إذًا الجميع يتجذر في وعيه الاختلاف، فهل ما يفرّقنا أكثر مما يجمعنا حقًا؟ ألا تقوم الدّراسات العلميّة على إحصائيّات وتجارب يخوضها البشر وتثبت بها معايير صلاحية منتج أو دواء أو فكر أو واقع معيّن؟ كيف للإحصائيّات أن تكون صالحة لإقرار دواء، فيما لا يصحّ تشابه الأحلام للإقرار بأنّ الإنسان واحد.
نتعاطف جميعنا مع أزمة أوكرانيا، ولكن فلنكفّ عن النرجسيّة التي نشبعها بالتعاطف الكاذب، ولنطهر حقولنا الطّاقيّة ولنربي أبناءنا على الوحدة، يمكن ساعتها أن تتوقف رحلات غزو الفضاء ويسلك الطريق نحو الدّاخل بحريّة وطواعية وانسياب خلّاق يضمن السّلامين: العالميّ والخاصّ.
** **
- د. وداد طه
Wedad08_t@hotmail.com