سأتحدث إليك صديقي القارئ، حديثاً أرجو أن أنتفع به أنا أولاً، قبل أن تنتفع به أنت، رعاني الله وإياك، هو حديث يمس طريقة معيشتنا في الحياة التي نروح ونغدو فيها من أجل قضاء حوائجنا ومصالحنا، مما ليس لذي عقل غنىً عنه ما دام حياً يستطيع الحركة والسعي في الأرض. كم أود الانتفاع بما أقول، وكم أود مشاركة القارئ لي في المنفعة، حتى يعم الخير، ونعمل كلنا بما علمنا، إذ لا فائدة بعلم من غير عمل، ولا فائدة لعمل ما لم يكن له قيمٌ ومبادئُ، تحميه من الزيغ والزلل، يتّبعها العامل في عمله بحيث يتخذها قوانين لا يحيد في اتباعها أبداً، ليصون نفسه ويجنبها طُرق الضلال والفساد.
بدون إطالة في المقدمات، حديثي إليك عن الأناة والتَّؤُدة، التي أصبحنا نحتاج إليها في عصرٍ من أبرز سماته السرعة بل الإفراط في السرعة غير المحدودة، ومن ينظر بتدبر فيما حوله من أحوال يدرك حقاً أن الأناة لتنقصنا، بل لقد صرنا نفتقدها مع أنه لا أحد منا فيما أظن، لا يعرف الحكمة المشهورة: في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة. ولكن - واأسفاه - قلّ منا من يفقه معناها، ثم يعمل بمقتضاها، فكثيراً ما نتج من ذلك فوات النجاح، وضياع التوفيق، مما كنا جميعاً حريصين عليه ومؤملين له، ولا لوم ولا عتب إلا على نفوسنا.
الحق أن المتأني فيما يقبل عليه من خطوات وقرارات، طالما يكون السداد والنجاح من حظه، ذلك لأن المتأني يسمح لعقله بالتفكير بروية وسكينة، قبل الإقدام على أي عمل، بخلاف المستعجل الذي يكاد يعطل عقله عن التفكير، وليس يجني على الإنسان شيءٌ مثلما يجني عليه تعطيل العقل، وذلك إما بعدم إعماله مطلقاً، وإما بإعماله بصورة غير صحيحة، تعوزها الحكمة والمنطق، صدق شوقي، رحمه الله، إذ قال:
ومن صحب الحياة بغير عقلٍ
تورط في حوادثها اندفاعا
كم يجني الناس على أنفسهم بسبب عَجَلهم، وكم أحدثت فيهم العجلة من آثار سيئة أورثتهم ندماً وحزناً، ترى من مظاهر ذلك من يتسرع في اتخاذ القرارات، وهو في حالة غضب وانفعال، فلا يضع في باله حساب أي شيء، ولا يفكر في تبعات قراره، لأنه قد غيّب الأناة، وترى آخرَ يتعجل في قضاء مصالحه، ويشتط في العجلة، كأن القيامة ستقوم عليه بعد ساعات، وأصارحك هنا عن شيءٍ رأيته من نفسي، في سعيي لقضاء ما لي من حاجات، إذ كنت أُسرع أشد الإسراع، وكأني في سباق مع الزمن، غير إني عرفت خطئي، وعقلت أمري، بعد أن عاينت خطر ما أفعله على نفسي وجسدي، وسمعت صيحة نفسي تقول واعظة: ارفق بي وبجسدك، وارحمنا جميعاً، عسى الله أن يرحمك. وترى أيضاً آخرَ عجلاً في قيادة السيارة، يوشك أن يورد نفسه وغيره موارد المهالك، والعجيب في الأمر أن ليس هناك ما يستدعي العجلة، وما به إلا التهور والطيش، وآخر تراه يخطئ في اختيار ما يصلح له وما يناسبه إذا أقدم على شيء من شؤونه، لأنه لم يفكر بتأنٍّ، وإذا رأيت ثَم رأيت الكثير الكثير من نتائج فقدان الأناة والتروّي.
ألا ننظر في القرآن ونتعلم من حكمته المنيرة، المرشدة إلى ما فيه خير النفس الإنسانية، فنقرأ قول الله تعالى:(إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) فنفهم غايته سبحانه من ذلك، كما بينها القرطبي في تفسيره فقال: (لو أراد لخلقها في لحظة، ولكنه أراد أن يعلم العباد التثبت والتأني في الأمور). وفي القرآن قال جل وعلا:(فامشوا في مناكبها) ولم يقل سابقوا وسارعوا، وإنما قال ذلك في السعي إلى فعل الخيرات والطاعات، وإن في هذا لعبرةً ينبغي أن نلتفت إليها.
لا يظن أحدٌ أنه بسرعته وعجلته سيسبق القدر، فينال ما ليس له، أو أكثر مما هو له، كلا فإن ما يقدرْه الله لك يُصبك، وما يُرده سبحانه يُمضه، ولا دَخْل في ذلك لعجلتك ولا لسكينتك، بل إن الحقيقة هي أننا كلما أسرعنا تأخرنا في الوصول، على حد قول بعض الحكماء، الذي يبدو قوله مخالفاً لمفهومنا، لأنه على عكس ما نعتقد ونعمل، وفلسفة هذا القول، هي أن السرعة قد توصلنا باكراً إلى ما نريد، ولكن ليس كما ينبغي أن يكون الوصول المراد، وليس على النحو المطلوب، الذي نأمله ويرضينا، فربما صاحبتنا مع السرعة الزلات والعثرات، أو بدا منا التقصير، وعندئذٍ نكون قد تأخرنا في الوصول بسرعتنا.
أختم مقالتي لك، ببيتين من حكم الشعراء الغالية:
إذا رُمتَ أمراً فلا تَعْجلنْ
وإلا ندمتَ على فِعلِه
فما عثرةُ المرء قتّالةٌ
إذا كان يمشي على مهله