رضا إبراهيم
جرى التمييز بين الحكاية الشعبية والحكاية الخرافية، فهناك من يرى أن الحكاية الخرافية، لا يمكن ربطها بالمجتمع الشعبي الذي عاشت فيه، ما يضع صعوبات حول تحديد تاريخ نشوئها، وكذا الحكاية الخرافية، كنمط روي بجميع بقاع العالم ووليد كل المجتمعات، وهي تعبير رومانسي عن آمال الشعب.
وظهرت تعريفات أخري للخرافة الشعبية، مثل حكاية مركبة من سلسلة موتيفات، تدور أحداثها في عالم خيالي عجيب، وفي هذا العالم العجيب ينتصر الضعفاء على الأقوياء، ويكثر فيه الحديث عن قصور وممالك وأمراء وأميرات، وهناك من يؤكد على أن الخرافة الشعبية، هي حكاية انتقلت إلينا عبر الأجيال، وتتميز بوجود بشر حقيقيين يعيشون بعالم فوق طبيعي، وتدور حياتهم وسط أحداث غير طبيعية.
وأفرز التراث العالمي، وخاصة الهندي والفارسي والعربي عدة أنواع من الأحياء، يمتزج فيها الواقع بالخرافة والحقيقة بالخيال، فهناك القصص المختلفة لمغامرات (سندباد) كمثال، تتحدث عن (حصان) يطير بجناحيه أو (أفعوان) متعدد الرؤوس أو عن (تنين) ينفث اللهب، والخيال ليس مقطوع الصلة بالواقع دائماً كما يتبادر إلى الذهن، لكن نصيب الخيال بتلك الأحياء كثيراً ما يجور على نصيب الواقع، ويصدق ذلك أيضاً على آراء العلماء الأولين.
فكان الفلاسفة في عصر أفلاطون وما تلاه، يؤمنون بأن كل الحيوانات على الأرض هي تقليد قاصر لحيوانات مثالية قليلة العدد، والتنين موجود بكل الحضارات القديمة تقريباً، وبنفس المواصفات مع اختلاف أنواعها وأسمائها، كما أن الأمر لا يقتصر على مجرد الحكايات الشعبية المتوارثة عبر الأجيال بحضارة ما، ولكن هناك الكثير من الرسومات والأشكال لتلك الكائنات، والتي نجدها موجودة بمعظم الحضارات، التي آمنت بوجودها وأشركوها بكثير من طقوسهم، وكأن هذا الحيوان وجد بالفعل كأمر طبيعي في زمن ما، والتي لم يثبت وجودها حتى الآن.
وتُعد الخرافة الشعبية أقدم شكل للأدب الخيالي الرومانسي، فهي الأدب غير المكتوب الذي أنتجه الإنسان القديم والبدائي بالعالم أجمع، ما يجعل الحكاية الخرافية تمثل (طفولة الأدب) بهذا العالم، وعبر السنين كانت حكايات (الجن والخوارق) تتواتر بالرواية الشفوية، لكن إغراءها الجمالي أمدها بالقدرة للنفاذ إلى أدب بعض البلاد، لتدون بثنايا كتابات أدبية وملاحم وأخبار وتقاويم، وبالسنوات الأخيرة توصل الباحثون إلى أن الحكايات والخرافات الشعبية، ليست حكايات فارغة المضمون، أنتجت للتسلية في فراغها، ولكنها عمل فني عكس صورة الحضارة التي أنتجته، حيث يعبر عن آمالها وتخوفاتها وطموحاتها وكافة سلوكياتها.
وجاء التأليف الخرافي العربي مبكراً، وكثر تداولها خاصةً بالقرنين الثالث عشر والرابع عشر، لكنها كانت تُشكل بمنأى عن الثقافة المتعالية، كالثقافة الدينية التي غيبتها، فلم تبق سوى أخبار متناثرة تشير لوجودها، أما الحكايات الخرافية نفسها فطُمست ولا يعُرف أمرها، سوى المدرجة في ذخيرة الخرافة لاحقاً، ومن أشهر الحكايات الباقية عن التراث العربي حكايات ألف ليلة وليلة وحي بن يقظان، وأفكار وعناصر من مقامات (بديع الزمان الهمذاني)، وكليلة ودمنة وغيرها من النوادر والأمثال الوعظية والأدب الحكيم أو القصص المُسلية، وقد تولدت موضوعات جديدة عن أصول تلك الحكايات العربية الباقية.
كذلك أحيت قصص ألف ليلة وليلة موضوع أدب الحيوان، فقد نجد الكثير منه في أدب الأطفال، ومع بداية الاهتمام بالحكاية الشعبية بالقرن الثامن عشر وما بعده، إلا وأصبح لها منهج مميز لجمعها ودراستها، ومتابعة تطورها التاريخي، كما اختلف الباحثون حول وطنها الأصلي، لكنها بمضامينها ومحاورها تعتبر خطاً مشتركاً بين الشعوب، ولعل الحكاية الشعبية الأثر الوحيد الذي التقت عليه الطبقات ومراحل التطور والعمر، لأنها تمثل لقاء الماضي بالحاضر، وتُشكل الحكايات والقصص الشعبية مصدراً هاماً من مصادر أدب الأطفال، ومجالاً خصباً يعتمد عليه أدباء الأطفال في كتابة العديد من القصص والحكايات، والتي يقرأها الصغار في الكتب أو المجلات، أو يسمعونها في الإذاعات، أو يشاهدونها في الإذاعات المرئية.
وتعتبر مدرسة العالم النفسي (فرويد) أن الحكايات الشعبية صورة حقيقية لعالم الطفل النفسي والوجداني، وقد تأثرت الحكاية الشعبية بألف ليلة وليلة كما ذكرنا، حتى أن بعضها كتبت على طريقة ألف ليلة وليلة، فالليالي من القوة الأسلوبية جعلت الحكاية اللاحقة لها تحمل طريقتها، دون اعتماد التركيبية الشاملة لها باعتباره فناً متصل الحلقات متصاعد البناء، وفي بحث حول مصادر القصص الشعبية في أدب الأطفال بمصر وجد أن ألف ليلة وليلة، تمثل المصدر الرئيسي للقصص الشعبية بالتراث العربي، وحسب نتائج البحث فإن جزءاً كبيراً يقارب السبعين بالمائة من الحكايات الشعبية مصدرها ألف ليلة وليلة، والتي تعدى تأثيرها الزمن وبناء الحلقات الداخلية إلى نوعية الشخوص والأماكن والمواضع وإلى الفواصل بين الأجناس، وإلى اعتماد السحر والغيبيات والأقدار واعتماد المثل والحكمة والكناية، فقد قُسمت حكايات ألف ليلة وليلة لأقسام ثلاثة، أولها الحكاية الشارحة الهادفة إلى تفسير صفة من صفات الإنسان والحيوان أو تفسير ظاهرة طبيعية، والتفسير يعتمد أساسه على إقناع القارئ أكثر من الاهتمام بكونه علمياً، وهناك الحكاية الأخلاقية والتي تثبت القيم السلوكية الإيجابية بعرض محاسنها، أو إظهار مساوئ نقائضها، وآخرها الحكاية الاعتقادية وهي ما ترويه حكايات ألف ليلة وليلة عن أصحاب القوى الخارقة والجن والسحرة، وامتزج قلق الإنسان ومعاناته من واقعه بخوفه الدائم من جهله للمستقبل، وتحول هذا الخوف إلى طموح وأحلام مشروعة للسلام والعيش بهناء.
حيث صاغ الإنسان منذ القدم معاناته وأحلامه في شكل قالب قصصي جميل، أضفى عليه الخيال كثيراً من السحر والجاذبية والتشويق، ثم باتت الحكاية الشعبية خلاصة الفكر الاجتماعي والنفسي والحضاري للأمة، صبغتها بطابعها الخاص ليميزها عن غيرها من الأمم، بالرغم من التشابه في كثير من المضامين والأشكال التراثية مع المجتمعات الإنسانية الأخرى، والمؤكد أن الحكاية الشعبية قد ابتدعها الخيال الشعبي البسيط للإنسان القديم، معبراً من خلالها عن واقعه، وعن تطلعاته وعن فكره وعن معاناته، لأن الإنسان القديم كان همه الأول تأمين الغذاء له ولمن يعوله، لتستمر حياته عبر جهده المتواصل بالصيد والرعي والزراعة، وبما أن جميع تلك الأعمال تبدو صعبة وشاقة وعالية الخطورة، فقد جعلت الإنسان يعيش بشكل مستمر، في حالة صراع مع كثير من القوى كان أولها قوى الطبيعة، وآخرها مواجهته المستمرة للحيوانات المتوحشة والمفترسة، التي كان له معها صولات وجولات ملحمية.
وكان للأسطورة جوانب متعددة ومتنوعة، فهناك من وصفها على أنها متاهة عظمى، ولذا نجد الكثير ينطلق في تعريفه متأثراً بجانب أو عدة جوانب منها فتبدو التعريفات قاصرة، وقد نجد العكس حيث يلجأ البعض إلى تسميات فضفاضة، تمتاز بالتعمية والمطاطية إلى حد يفقدها الدقة والتشخيص والتمييز، بجانب أن للأسطورة خاصية الشعر، الذي يكاد يظل عصياً على أي وصف محدد، ولعل صعوبة الحد والتعريف كامنة في المطلق الذي تنزع إليه الأسطورة أو الذي ينزع إليه الإنسان من خلال الأسطورة، يكمُن في كونها على حد تعبير بعضهم نظاماً رمزياً، وأن المنهج أو المنظور الذي يتعين النظر إليه منها، لا ينبغي أن يكون جزئياً انتقائياً، حيال تلك الحقيقة الثقافية المعقدة، مع عدم السير بتجربة الأسطورة مباشرةً، سوى ببعض منها وهو بعض مشوش الأصل، مغيراً لشكله على الدوام وغامض المعنى.
ورغم امتناعها على التفسير العقلاني، فهي تستدعي البحث العقلاني، الذي تعزى إليه شتى التفسيرات المتضاربة، والتي ليس فيها ما يستطيع تفسير الأسطورة تفسيراً واضحاً، لأن القدماء أنفسهم لم يعملوا على تمييز النص الأسطوري عن غيره، ففي داخل بيوت الألواح السومرية والبابلية، وجد أن النصوص الأسطورية مبعثرة بين البقية، ثم إن عنوان الأسطورة غالباً ما كان يتخذ من سطره الافتتاحي الأول، شأنه شأن بقية النصوص الطقوسية أو الملحمية أو الأدبية البحتة، وخير مثال ما حدث في التراث الإغريقي.