محمد سليمان العنقري
تمثّل قمة العشرين في إندونيسيا منعطفاً مهماً بالاقتصاد العالمي فمخرجاتها سيبنى عليها ما سيتم خلال عام قادم لإزاحة كل ما أثقل كاهل الاقتصاد العالمي من تحديات ومخاطر, ورغم أن مجموعة العشرين تجمع اقتصادي بامتياز نظراً لأن أساس تأسيسها قبل حوالي 23 عاماً كان بسبب أزمات اقتصادية أدت لهذا التجمع الذي كان يعقد فقط على مستوى وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية, لكن الأزمة المالية عام 2008 هي من كانت السبب بتحول التنسيق بين دول المجموعة ليتوج بقمة سنوية على مستوى القادة, وتعد أزمة جائحة كورونا ثاني الأزمات التي واجهتها المجموعة, أما ثالثها فهي الحرب الروسية على أوكرانيا, فهذا المشهد المركب من تعقيدات بملفات ساخنة جعل من هذه القمة مختلفة من حيث تأثيرها على المرحلة القادمة الاقتصاد والسلم العالمي.
فرغم تركيز الرئاسة الإندونيسية على أولويات تتمحور حول تعزيز بنية الصحة العالمية, وذلك لكي يكون العالم قادراً على الاستجابة بشكل أفضل لأي طارئ صحي بالإضافة للتركيز على التحول الرقمي كأحد الحلول الأساسية في تحريك عجلة الاقتصاد أثناء تفشي جائحة كورونا, إذ أنه بات مصدراً جديداً للنمو الاقتصادي وقطاعاً مهماً تتجه له غالبية دول العالم مع التوجه لتطوير المهارات ومحو الأمية الرقمية من أجل تحول شامل للجميع, إضافة للملف الثابت في أروقة كل القمم والاجنماعات الدولية منذ سنوات حول سبل تعزيز التحول نحو طاقة مستدامة ومتجددة يمكن الوصول إليها وتحمل تكاليفها، إلا أن تحقيق كل تلك الأهداف والأولويات مرهون بمدى القدرة على إذابة الخلافات السياسية بالمرحلة القادمة بين الدول الكبرى, فأميركا وأوروبا في خلاف عميق مع روسيا أحد أكبر مزودي الطاقة والسلع الغذائية بالعالم بسبب الحرب على أوكرانيا حيث تم فرض آلاف العقوبات على موسكو وهي بدورها عاقبتهم بأمن الطاقة وتصدير السلع الغذائية الرئيسية بعد فرضها لشراء ما يحتاجونه بالروبل الروسي, وكذلك التهديد بوقف التصدير لهم في حال طبقوا سقف أسعار للنفط الروسي مما أدى لارتفاع التضخم عالمياً وتعطل بسلاسل الإمداد, يضاف لما أفرزته بهذا الملف جائحة كورونا, كما أن الخلافات الأمربكية الصينية وصلت لمرحلة خطرة إذ استفزت واشنطن بكين في سيادتها كصين واحدة عندما زارت رئيسة مجلس النواب الأمريكي تايوان في تحدٍّ واضحٍ للصين مع استمرار خلافاتهم التجارية منذ سنوات.
فهذا المشهد المعقد سياسياً هو ما يفرض نفسه على الاقتصاد العالمي بتأثيرات بالغة أدت لوصول التضخم لمستويات غير مسبوقة منذ أربعة عقود في أميركا, ومنذ خمسة عقود في أوروبا بشكل عام, فخطورة الملفات السياسية الحالية أنها لم تنشب لتنتهي بإزالة سوء فهم بين تلك الأطراف التي تشكل اقتصاداتها أكثر من 60 بالمائة من الاقتصاد العالمي, بل هي ترتكز على توجهات وأهداف استراتيجية فأميركا تريد تحجيم روسيا لمنع عودتها للمشهد الدولي كوريث للاتحاد السوفيتي, ويمكن القول إنها نجحت بملف إزاحتها من سوق الطاقة بأوروبا لتكون هي البديل بنسبة كبيرة, وهذا ما يضع القارة العجوز في مأزق حيث إنها أرادت من خلال اتحادها وإطلاقها لعملة موحدة أن تستقل عن واشنطن في كثير من توجهاتها, لكن مع أزمة الطاقة الحالية لديها أصبح الأمر صعباً وستضطر لعلاقة تغلب فيها المصالح الأمريكية على مصالحها, فواشنطن تريد أن تبقى أوروبا معها ليس بمواجهة روسيا إنما في ما هو أهم من ذلك بكثير وهو أن تبقى مع واشنطن في فرض الهيمنة الغربية لكن بقيادة أمريكية وذلك عبر إزاحة أي منافس لهم, وعلى رأس القائمة الصين, ولذلك فإن مشكلة طبيعة الخلافات السياسية الحالية أنها ستبقى مزمنة إلى أن يحقق أيٌّ من الأطراف المتنازعة هدفه ويعترف خصمه بانتصاره وهو ما سيعني تشكيلاً جديداً لمراكز القوة بالعالم لما تبقى من هذا القرن, ففي ملف التضخم رغم كل السياسات النقدية المشددة التي اتخذتها أوروبا وأميركا إلا أن انخفاض تأثيرها مرتبط بعدم تحقيق أي حلول بالملفات السياسية ولذلك كانت وزيرة الخزانة الأميريكية واضحة عندما قالت إن إنهاء الحرب في أوكرانيا سيحل مشكلة الاقتصاد العالمي.
عالم اليوم يواجه تحديات تعد مفترق طرق ليس بين دخول الاقتصاد العالمي بركود من عدمه, بل بمدى القدرة على تحقيق السلم الدولي وعدم الانجراف لحروب مفتوحة, بالإضافة لانقسامات عالمية ضخمة في طبيعة معالجة ملفات المناخ والتحيز الغربي نحو وجهة نظرهم ومحاولة تحميل الوقود الأحفوري دون غيره المسؤولية عن الانبعاثات الكربونية, وتناقضاتهم في التعامل مع هذا الملف بعدالة ومنطقية وموضوعية إضافة لمواجهة مشكلة سلاسل الإمداد وكذلك الجنوح لسياسات نقدية مشددة بوقت قصير مع سوء تنسيق دولي بأغلب الملفات الاقتصادية من طرف القوى الكبرى تحديداً, وكذلك عدم التعامل مع احتياجات الدول الأقل دخلاً والتي تعد قنابل موقوتة لو انفجرت بها أزمات غذاء أو تردٍّ اقتصادي وعدم القدرة على سداد التزاماتها مما سيعني أزمات متفرعة واضطرابات لسنوات طويلة, فكل هذه السيناريوهات يمكن منعها إذا ما تم حل الخلافات السياسية ومواجهة التحديات الاقتصادية من قبل مجموعة العشرين, ولعل اجتماع الرئيسين الصيني والأمريكي الذي تم خلال القمة لمدة ثلاث ساعات أن يكون خبراً ساراً ينعكس على بقية التحديات لإزالتها نظراً لتوافقهم على التعاون ومكاشفتهم ومصارحتهم حول كل الخلافات بين أكبر اقتصادين عالميين.