د.فوزية أبو خالد
حمداً لله.
أكتب هذا المقال لأسجل تجربة مروعة مررتُ بها لعدة ساعات كانت كأنها لمح البصر وفي نفس كان الوقت في كل دقيقة منها أطول من أي يوم عشته قبلها بل أطول مما انصرم من عمري كله..
- كانت طائرة الخطوط السعودية للرحلة الفجرية نهاية ليل الخميس قد أقلعت من أحب أرض على قلبي وحطت على أرض نيويورك ظهر يوم الجمعة الرابع من نوفمبر.. وكان سحر ذلك الترحال الجوي الذي يطوي الأرض من أقصاها لأقصاها في عدة ساعات لا يفقد سرياليته رغم رحلاتي العديدة من وطني لأمريكا منذ كنتُ بالثامنة عشرة من عمري إلا أن تجربة اليوم التالي لتلك الرحلة والتي أحسستُ خلالها أنني عشتُ فيها عمري عدة مرات وكدتُ أفقده في الوقت نفسه في لحظة واحدة فاقت كل ما وقفت أمامه من لوحات سريالية في متاحف العالم، بل إن رعب تلك التجربة تعدى كل ماشهدته من أفلام الرعب وتجاوزت تجاربي السابقة في الوقوف وجهاً لوجه على حد رهيف بين الموت وبين الحياة.
- كان يوم السبتُ، الساعة حوالي العاشرة وعشرين دقيقة من صباح مشمس على غير عادة طقس نيويورك في مثل هذا الشهر من العام، عندما هاتفني ابني من الرياض ليخبرني أنه سيكون في غرفة العمليات لئلا أقلق لو حاولتُ الاتصال به ولم يرد، فدعوت له ولمريضه بالشفاء. وعدتُ بعدها لاستئناف صباحي الذي كان يبدو مفعماً بالدعة وبالعادي وبالسلام. كان هناك نصف كوب القهوة لا يزال دافئاً ولا أزال أرشفه على مهل مستمتعة بعبير القهوة والخبز البر المحمص الذي لم أمد يدي إليه بعد، كانت هناك صحيفة النيويورك تايمس التي لازلتُ أحافظ على قراءتها ورقياً يوم السبت والأحد مبعثرة على الطاولة ولم أتصفح منها إلا عناوين الصفحات الأولى وصفحات الثقافة والكُتب، كان القط حالك السواد واسمه أصفر يتثاءب بكسل ويرقب بغيرة على ما يبدو أطفالاً يستعدون بصخب مؤنس للخروج من البيت للمشاركة في مسيرة «إنقاذ النمور» التي تقود حملة مبادرتها المملكة العربية السعودية بالأمم المتحدة.
- فجأة انقلبت وداعة ذلك العادي رأساً على عقب، خرجت عقارب الساعة عن مسار الوقت المعتاد، اتسعت الأحداق تسارعت دقات القلوب وأوشك الدم على التجمد في العروق..
- في البداية لم يكن ملفتاً سماع صوت «الصايرون / المنبه» القاسي لأصوات سيارات الإسعاف وصوت المطافىء الذي لا يتوقف نحيبه آناء الليل وأطراف النهار في شوارع منهاتن، إلا أن الصوت مالبث أن اقترب بحيث لم يعد يطاق، قربتُ العكازين وقفزتُ إلى النافذة يسبقني بنفس التوجس الطفل الصغير الذي منعه مثلي الإعياء من الخروج صباح هذا اليوم الزاهي إلى موعد بحديقة وسط نيويورك العامة المعروفة «بالسنترال بارك»، إلا أنه صاح قبل أن أصل لحافة المطل: ماما فوز.. غيمة دخان كبيرة تخرج من بيت الجيران الذي تحتنا والناس يركضون خارج المبنى حفاة.. لم أصدق عيوني وأنا أحتضن طفلي وأبتعد به عن مشهد الحريق المروع أن هذه النيران لا يكاد يفصلها عنا إلا بضعة أمتار بينما لم يدق أي جرس من أجراس الإنذار المعتادة والتي طالما فضحتنا لو بخرنا البيت بكسرة عود صغيرة. ركضتُ إلى الهاتف الداخلي لأتحدث لأحد موظفي «الاستقبال» بالمبنى إن كان لديهم خطة لإخراج السكان من المبنى في مثل هذا الوضع الخطير، فلم يرد أحد ولما كنتُ أعرف أن لكل ثانية في مثل هذه اللحظات الراكضة المشحونة بالرعب والخطر ثمناً غالياً فقد توقفتُ عن محاولة الاستمرار في سماع جرس هاتف لا يبدو أن هناك من يسمعه، واتجهتُ من فوري وفي يدي الطفل إلى الباب الخارجي للبيت على أمل الوصول إلى الباب المؤدي إلى سلالم المبنى الذي يقارب أن يكون ناطحة سحاب، ولكن ما أن فتحتُ باب البيت حتى وجدتني أمام غيوم من الدخان التي بإلكاد سنرى فيها طريقنا في الممر الطويل المؤدي لباب الطوارئ هذا لو وصلناه دون أن نختنق.
- فما كان مني إلا أن اندفعتُ لداخل البيت وأنا عابطتُ الطفل وأخذتُ أسمي عليه وأبتهل لله بصوت ملتاع أن يلهمني الرشد في قرار المخاطرة بالخروج في هذا الدخان الخانق للدرج أو المخاطرة بالبقاء في البيت وليس بيننا وبين البيت المحترق إلا جدران غير بعيدة عنه. في نفس الوقت كنتُ أقوم بآلية الخوف العجلى بوضع مناشف مبلولة عند المداخل وأجري كل اتصالات بجهات رسمية وعائلية ممكنة طلباً للنجدة.. فتحتُ حنفيات البيت كلها والتجأت مع طفلي وسجادتي وكتاب الله في أقصى غرفة بالبيت وصرنا طفلي وأنا نقرأ القرآن نصلي وندعو وأدعو من نياط قلبي بسلامة الجميع وبسلامة على الأخص جميع الأطفال وطفلي.. طفلي الذي أبدى شجاعة الأبطال ورباطة جأش لا تصدر إلا عن روح المحاربين المحبين للحياة والمدافعين عنها بإباء وكرامة.. فقد كان يقرأ معي سورة الفاتحة وسور المعوذات وآية الكرسي ويحتضنني بحنان ويقول لي خلينا نتنفس بعمق يمسك يدي بيده الصغيرة ويدربني على الشهيق والزفير قائلاً هكذا علمونا بالمدرسة «خلينا نتنفس ونقرأ القرآن ولن يصلنا الحريق بإذن الله ويردف قولي ياااااارب».
- الساعة الحادية عشرة وربع دق الباب بقوة فهرعنا لهناك لنجد رجلين من رجال المطافىء العمالقة يبشروننا أنه تم السيطرة على الحريق وكان الدخان الذي غطى الممر قبلها بأقل من نصف ساعة قد خف إلى حد بعيد. حقاً كانت أطول ساعة مررتُ بها في حياتي وقد كانت الأشد رعباً ورحمة لأن روحاً صغيرة كانت في عهدتي وربما جعل الله النار تنتهي بسلام في ظرف ساعة واحدة رأفة بطفولتها.