د. محمد بن عويض الفايدي
القيادة جوهر الريادة وسبيل السيادة والأمم يرفعها قائد وقد يخفضها، وبمقدار ما تتوافر للقائد من مهارات وسمات وخصائص يمكن أن تستجيب للمواقف وتتفاعل معها تلبية لخصائصها المتباينة والمتبدلة. فهل نظريات وأنماط وأساليب القيادة تحاكي تحولات اليوم السريعة؟
اتجاه بوصلة القرار نحو الهدف وتصويبه تعد الفيصل لتقييم القادة وتقدير مستوى النضج القيادي. وفي هذا الإطار تتطلع المجتمعات الإنسانية بآمالها وطموحاتها اللا نهائية إلى قيادة فعَّالة توجهها نحو أهدافها بمنهجية قيادية تمتلك أدوات وأساليب متجددة تلبي حاجات الأفراد والجماعات والمنظمات والهيئات والكيانات المختلفة، وتعتمد فاعلية الجماعات والكيانات على كفاءة القيادة التي تُشكل رؤيتها نحو تحقيق الأهداف والغايات.
تُعد الأنشطة القيادية محوراً مهماً وبعداً أساساً تقوم عليه جميع الأنشطة ومختلف الأعمال، ومع تحضر المجتمعات وزيادة التقدم العلمي والتقني وتطور الدولة واتساع خدماتها زادت الحاجة إلى منظومة قيادية واعية تدرك متغيرات وأدوات التحضر المجتمعي وتتفاعل بمهارة مع تحدياته.
التحول من أدوات الإدارة التقليدية إلى منهج مهارات القيادة يُعد استجابة لمعطيات التقدم العلمي والتطور التقني الذي يستهدف إمداد مؤسسات المجتمع بالقادة الأكفاء من أجل تحفيز الطاقات البشرية، واستثارة دوافعهم، ورفع روحهم المعنوية، لتحقيق الأهداف ورفع كفاءة الإنتاج. والذي بدوره أدى إلى زيادة الطلب على القيادة النوعية التي تؤمن بأهمية المعلومات في اتخاذ القرارات السريعة والمفاجئة، ودور الاستشراف في تخطي التحديات واجتياز العقبات ضمن منظومة قيادية تُؤسس للدور القيادي الجديد الذي يدفع بوظائف الإدارة من تخطيط وتنظيم وتنسيق وتوجيه واتخاذ قرارات ورقابة ومتابعة وتقييم وتقويم لتحقيق الأهداف بدرجة عالية من الكفاءة.
اتسعت وتغيرت أنشطة الأفراد والحكومات ومنظمات ومؤسسات الأعمال، وتشابكت علاقاتها، وأصبح تطبيق مفهوم - لها أن تقاد بدل من أن تدار- مفهوم ضروري التطبيق على مستوى الأسرة والمجتمع والدولة لاسيما في ظل التطور التقني والتقدم المعلوماتي والتوجه نحو الاقتصاد القائم على المعرفة، والذي بدوره ضاعف مسؤولية القائد في فهم التحولات وأساليب تحفيز وتوجيه وترشيد سلوك الأفراد وحشد طاقاتهم وتوجيه جهودهم نحو أمثل السبل المحققة للأهداف والغايات.
تُعد جهود تهيئة وإعداد القادة وظيفة حيوية يسعى إليها الأفراد والجماعات والكيانات العامة والخاصة على حد سواء، وذلك لبناء قدرات قيادية تستشرف المستقبل وتصيغ الخطط والإستراتيجيات التي تتخطى محددي الزمان والمكان برؤية شمولية تستلهم الأهداف الإستراتيجية، وتعمل على تحقيقها بدرجة عالية من الكفاءة.
التدريب مهمة جوهرية لرفع كفاية أداء القادة وتحقيق النضج القيادي {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} (سورة البقرة الآية 249). ويُشكل التدريب حجر الأساس في البناء القيادي ورفع مهارات القادة في المنظومة القيادية التي تتطلب الإعداد المعرفي والمهاري للقادة في ظل التحولات التي لم تستوعب سرعة الإحداث والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وأن ما لم يحدث في قرون قد يحدث في بضع أسابيع، وأن تغيرات مذهلة قد تحدث في العالم بصفة أقرب إلى الخيال والمفاجئة المذهلة التي تفوق كل التصورات والتوقعات، ذلك لانفلات العقد القيادي وتراجع فاعلية القيادة وغياب دور القائد الفعال القادر على اتخاذ القرارات المتزنة ومواجهة التحديات وتجاوز الأزمات بزيادة فرص المكاسب وتقليل فرص الخسائر، والمشاهد الحية في عالم اليوم تعكس هذا الانحطاط القيادي وذاك التردي الإداري فهذه دولة أفسدت ودمرت العراق ولبنان وتسهم في تدمير سوريا واليمن، وتفتخر بنجاحاتها بتصدير الثورة وهي لم تجن إلا الدمار والخراب لتلك الشعوب والبؤس ومزيد من الفقر والجهل وإدمان المخدرات والضياع والتشرذم لشعبها الذي يقود ثورات وانتفاضات تسحقها رحى التسلط والطغيان وتخمدها روح المذهبية والطائفية المجندة من الغرب للإبقاء على المصالح وتعميق النفوذ في عمق مخزون الطاقة وموطن الإمداد بالنفط والغاز. كل ذلك بسبب غباء القيادة وشقاء القائد.
العالم مأزوم قياديًا ويعاني من أزمة قيادية حادة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية القيادة تعيش تراجعًا واضحًا وتأرجحًا غير مسبوق في توازن ورشد القرار، وفي بريطانيا القيادة في أسوأ مراحلها بين شد وجذب وانقسام وفشل وتسلق قيادي مكشوف يفضح اختلال أسس القيادة وتخبط القادة في اتخاذ القرارات والسيطرة على الأتباع وضبط غيقاع المشهد العام. وفي المشهد الأوكراني يتضح غياب القدرات القيادية في تشرذم قيادي واضح على مستوى الدولة المهاجمة روسيا والدولة المدافعة أوكرانيا بين جيوش ممزقة مشرذمة القيادة وصرخات معلنة وصيحات مبطنة بين رحى حرب دائرة قضت على كيانات شامخة ومزقت اجساد وجلة لم يكن لها في تداعيات النزاع دور ولا في نتائجه منفعة لتقاد إلى ساحة المجهول على أرض معركة ضحاياها كثير داخل وخارج الدولة التي طالتها الحرب لتتزايد الضحايا بمعدل متزايد يصعب حصره في مواجهة الاضطرابات الجيوسياسية والتحديات العالمية ومخاطر الوباء والتغير المناخي والانتشار النووي والبيولوجي الذي أضحى يلوح في الأفق خطورة تهديده. وفي أقصى الشرق الأسيوي ينحدر التنين الصيني بدكتاتورية تُحيد كل أنواع المشاركة والشورى وتستبد بالرأي في مشهد أحادي القيادة لا يقبل الرأي ولا يؤمن بالمشاركة ويكتنفه الغموض الذي يجعل منه شبح قادم يُخشى دوره المؤثر في تشكيل وصياغة النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب والعملات النقدية الأخرى البديلة للدولار خاصة في تعاملات الطاقة. وتظل جل دول القارة الإفريقية في وحل الجهل والجوع والفقر والمرض والنزاعات العرقية بين فاقد للأمل ومستكن من البطش والأذى تحت إدارة هزيلة متصدعة تهزها الانقلابات وتدمرها عصابات التمرد هذه الإدارة شرعنت للغرب رق شعوبها وسلب ثرواتها بإشعال الفتن بين طوائفها وترويج السلاح بين عصاباتها لتظل جُل دول هذه القارة في تخلف دائم وجهل مستمر.
يعاني الشرق الأوسط من واقع قيادي بائس جعل منه ميدان للصراعات وساحة للحروب وفريسة للأطماع بين خيرات منهوبة وموارد مبددة وشعوب يائسة لا تُعول على قيادتها الشيء الكثير. بينما يبدو الخليج العربي متماسكاً تحت قبة مظلته المشتركة «مجلس التعاون لدول الخليج العربي» ليقترب من الاستقرار المشوب بالحذر من تهديدات إقليمية ومخاطر عالمية جعلت من قيادته تؤمن بأهمية التلاحم وضرورة الوحدة لمواجهة التحديات وتجاوز الأزمات. ويظل الداخل الوطني متعايشاً مع الواقع الإقليمي والدولي القائم بتفهم لصعوبة المرحلة وجسامة التحديات وأن رمزي القيادة السعودية يسعيان بوعي ومرونة لتحقيق التوازن بين الوقاية من التهديدات وتحييد المخاطر وتجاوز الأزمات بما يضمن الاستمرار في الريادة وكسب عنصر الوقت لجعل المأمول واقع.
يُشكل الأتباع بعدًا جوهريًا في نجاح وفشل القائد مما يجعل مهارات القيادة تنظر للأتباع على أنهم جزء لا يتجزأ من دائرة اتخاذ القرار وإنجاز المهام بالكفاية المطلوبة، ويظل دور الأتباع جهداً يعول عليه ولا يمكن الاستغناء عنه مهما بلغت مهارة القائد ذلك لأن موثوقية القائد انطلقت أصلاً من ثقة الأتباع بالقائد وترسيخ التمكين القيادي للقائد بمنحه القدرة والطاقة اللازمة لاتخاذ القرارات وإصدار الأوامر وبالتالي قبول سلطة القائد في تصور واضح لأهمية مبدأ قبول السلطة أي أن القرارات لا يكفي صدورها، بل لا بد من قبولها من أجل التسليم بالأهداف والعمل على تحقيقها. {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} (سورة البقرة آية 251). فمنظومة القيادة تحمل في طياتها عناصر ومتغيرات جديدة توازي مستوى التحولات ومهارة القادة تتمحور في التمكن من اكتشافها، فالمسؤولية القيادية لها وعليها تجسير الاتصال وموءامة الأهداف والتأثير البالغ في سلوك الأتباع، وقدر كافي من المهارات الإدارية والاجتماعية والنفسية والسياسية والفنية وصياغة التأثير المباشر وغير المباشر باستحضار الماضي وفهم الواقع واستشراف المستقبل بمهارة القائد الواثق من الممارسات القيادية بشخصية مهابة تمتلك مهارة الإقناع والتأثير في الأفراد والجماعات بمهنية قيادية راسخة تستلهم النضج القيادي في اتخاذ القرارات وإصدار التوجيهات وتقييم الخطط والاستراتيجيات والمفاضلة بينها وضبط خط السلطة بين محددي الزمان والمكان المناسبين دون الحاجة إلى الاستدارة التامة إلى الخلف ثم العودة إلى نقطة التوازن للانطلاقة نحو المستقبل وهو ما يحدث فيه اختلال التوازن والتعثر والسقوط في مرحلة دعم القرار والترجيح والاختيار بين البدائل في ظل تحولات سريعة ومتلاحقة اتخاذ القرارات فيها محفوف بمخاطر مرحلة في غاية التعقيد مدخلاتها متعددة ومتدرجة ومخرجاتها قد لا تتوافق مع الأهداف ولا تتفق مع الغايات. وبدا أن نظريات القيادة السمات والموقف والتفاعلية وأنماطها الأوتوقراطية والديمقراطية والحرة لم تقدم النموذج المثالي لصناعة القرارات ورشد اتخاذها في زمن زخم التحولات فيه يتعاظم والمصالح والأطماع تتزايد ورمزية القيادة فيه تتخاذل. مما ينبغي معه دور فاعل لعلماء الإدارة وقادة الفكر القيادي مراجعة أدبيات الإدارة والقيادة للخروج بنموذج ونظريةقيادية تُؤصل لفكر إداري قيادي جديد يواكب التحولات ويتخطى المعضلات القيادية التي حالت دون فاعلية القائد وإيجابية القيادة.