خرج فتحي ولم يعد. ولم أعد كما كنت. كنتُ أمّه وأخته وزوجته وصديقته، شعرتُ أنّه خانني حين اتخذ ذلك القرار وحده، خططّ له بصمت ونفذه بقسوة فاتكة. منذ خرج وأنا أبحث عنه، أراه في الشّوارع، أركض خلف أيّ كتف تشبه كتفيه، أعيد ملامحه كي لا تتلاشى من قلبي، أتذكّر ملابسه ذلك اليوم، قميصه البنيّ الكتّان وبنطاله البيج، أخبرته أنّه يلبس قهوة بالبسكويت، ابتسم ببرود وأدار كرسيّه المتحرّك، عاد إلى غرفة النّوم، وحين تأخر في الخروج ودّعته مستعجلة لقضاء بعض الحاجات.
لم أكن أنام، كلّ ما أفكّر فيه فتحي؛ هل هو حيّ؟ هل آمن ولا خطر حيث هو؟ هل مازال يستمع إلى فيروز صباحًا؟ فتحي صوته عذب، كان يغنّي لي «الأغاني كلام شو خصّ الكلام عينينا هنّي أسامينا» ينظر إلى عينيّ فأهرب منه إلى أيّ شيء ساذج، ينجيني من تلك اللحظة الشّهيّة المربكة» إلهي لو أنّهم يحفظون الأصوات من الغياب, لو أنّ لي أن أسمع ولديّ كم كان جميلًا صوت والدهما، لمَ عليّ أن أربيهما وحدي يا فتحي؟ لمَ فعلت فيّ ذلك؟ أولم تكفِك سنوات الحرب التي عشتها بعيدًا؟»
- هذه معركتنا يا سلمى، هذا نضال شعبي، هذه أرضي»
- «لكنّك لا تحارب على أرضك يا فتحي، أنت هنا ولست في فلسطين، كيف ستكسب معركة مشتعلة على أرض ثانية؟»
- إنّها المعركة ذاتها والقضيّة ذاتها والعدوّ ذاته والجميع يعرف ذلك، كفاك تعمين عينيك عن الحقيقة.
- عن أيّ حقيقة تتحدّث. إسرائيل تعدّ حربها مقدّسة وتشنّها باسم الله. وأنتم تقاتلون باسمه، والله بعيد من كلّ هذا الهراء، هل يرضى الله أن يقتل عياله باسمه؟ قد لا أكون مقاتلة يا فتحي لكنّي أمّ، يمكننا أن نسافر، يمكنك أن تحوّل نشاطك العسكريّ إلى عمل مقاوم من نوع آخر، أنت مهندس... لدينا طفلان.
كنّا مختلفين في كلّ شيء، لكنّ الحياة وجدت بيننا سيناريو مناسبًا لإنشغاله في العمل الثّوريّ؛ رسمته على عجل وكيفما اتفق، لم أنشغل بتنظيمه، كنت كالمسحورة أحيا كلّ يوم بيوم، لا إيمانًا وتسليمًا، إنّما كنت كغيري وقتها مندفعين بقوّة الاستسلام للحاصل لا التسليم الحرّ، تركتُ الجامعة الأمريكيّة كما تركها، تنقّلتُ معه بين الأردنّ وسوريا ولبنان، كان ينخرط في كلّ جبهة، كأنّه ينادي الموت، أو يتحدّى الحياة، بأعجوبة نجا من أيلول الأسود، لكنّ آذار كتب له حياة مختلفة، لم أنتبه لها وأنا منهكة أهتمّ بكلّ شيء، حتّى إنجاب الطّفلين كان أمرًا سعيت له وحدي. فتحي كان يعيش وقلبه في مكان آخر، وسيّان عنده إن أنجب أم لا، بل لعلّه لم يرد ذلك ولولا حبّه لي ما استجاب.
في ذلك اليوم الذي أعادوك فيه من إحدى المعارك كنتُ أستمع إلى الرّاديو، شعرتُ أنّ الخبر الذي يقرأه المذيع موجّه إليّ. آذار شهر الزّهور انقلب إلى جهنّم، من مات من المقاتلين خلال تلك الأيّام عُرف مصيره، وأنا كلّ ما أعرفه عنك ذلك المكان حيث دفنوا ساقك. حين بُترت قلتَ إنّها ليست أغلى من الوطن ولا من أرواح الشهداء، أين ذهب كلامك ذاك؟ أين رحلتَ وتركت لي قطعة حديد باردة، يدفعون لي مقابل وجودها في البيت معاشًا شهريًّا يتبخّر سريعًا؟ أين ذهبت؟
البارودة تقف عند الباب، تصوّب فوّهتها نحوي، تطلق رصاصها، أصرخ يصيبني ولا أموت، فتعيد إطلاق جرعة ثانية، أصحو، أنام أراني أهتف في مظاهرة، أحمل طفليّ وأركض، حولي نسوة ورجال وأطفال غاضبون، دخان كثيف، جنود يطاردوننا، دبّابة تقصف البيوت، أشلاء ودماء وأطفال تبحث عن أمهاتها، نمشي، ننهض، نركض، والدّبابة تقذف الحلوى في الجوّ، يعلو صوت الأذان، تغرق خطواتنا في سراب الشمس، طائرة تعلو تهبط، مقاتلون يندفعون بالهراوات، نصل سكّين تلمع، امرأة سمراء تصرخ عودوا عودوا الطّريق من هناك، لا نسمعها، يقول أحدهم مجنونة، نسير، لهب الشّمس يذيب عيوننا، نسير، يسير جنود حولنا، يختفي الجنود، ويظهر طابور ومراكب شراعيّة، أيدٍ تلوّح، وعلامات نصر ترتفع عاليًا، شمس عالية، خطابات وأعلام وخطوط طول وعرض بالأزرق والأبيض ترتسم وعلم ومركبات وتوابيت وجموع محتجزة في أرض مزنرة بالشباك المعدنيّة، وأراك تقف خلف تلّة رمل، أطلب منك أن تحمل الطفلين، أناديك وأمدّ يدي وأنت واقف، أصرخ، أناول الطفلين لامرأة تمشي بجانبي تضع كوفيّة لا أعرفها، أوصيها بهما سريعًا، أمشي نحوك وتسير تسير، حرّ الشّمس يشتدّ تلتهب الأرض وتشتعل ثمّ يبتلعك الزّحام... أصرخ وأصحو يدي ممتدّة في عتمة الغرفة التي أسكنها وحيدة، أتفقّد البارودة تحت السّرير، هامدة مسترخية، أرتجف، الطفلان ينامان، أغمض عينيّ وأشيح بهما بعيدًا منها كي لا يتحقّق الحلم وتنطلق إحدى رصاصاتها صوب عيني.
أدور كالمجنونة إلى أيّ مكان أو شخص يمكنه أن يدلّني على أيّ معلومة ولو كانت عن أحد رآه أو لمحه أو سمع عنه شيئًا هناك. الحصول على أيّ معلومة كان أمرًا شبه مستحيل. الجميع يتكتّم عن أيّ معلومات تتعلّق بمن يذهبون إلى الحرب. تلك الحرب كانت فينا يا فتحي، لم تكن في الجبهات، كنّا حالمين وطيبين وبسطاء، وكنتَ جميلًا بقدر إيمانك أنّك سترى أرضك محرّرة، هل يموت الجمال يا فتحي؟ أتعلم كم جبهة فتحتَ فيّ وجعلتني أخسرها وحيدة؟ أتعلم ماذا فعلت منذ اتخذت ذلك القرار المجنون بالرّحيل؟ أبحث عنك في كلّ مكان، منذ سنين وأنا أقصد دوائر النّفوس في لبنان وسوريا، أقترض المال، أدفعه لأيّ خبر عنك، لاكتني ألسن النّاس في المخيّم قالوا إنّي مجنونة، إنّ ولديّ من رجل آخر، حتّى أمّك صدقت، ذكرتها بتاريخ ولادة الطفلين، بعد عودتك من تلك الدّورة التدريبيّة التي تركتَ الجامعة لتلتحق بها، من يومها لا أزورهم ولا يسألون عن الأولاد. تركتني للعذاب ولست أعرف إن كنتَ مرتاحًا هناك حيث أنت. ها أنا أقف بين هذه النّسوة، نرفع لافتات، نعلم مسبقًا أن لا أحد يقرأها، تصوّر دموعنا الكاميرات، نرحل أشدّ انكسارًا، تقول جارتي التي تحمل صورة ابنها الشّهيد:»راحوا ما حدا سائل عنهن» أوافق بإيماءة من رأسي، أنظر إلى دموع العجوز تنساب في أخاديد وجهها الأسمر، عيناها ذابلتان بالكاد تفتحمها تحت شمس آب الحارقة، أبحث عن دموعي.
منذ سنوات أتحاشى لمسها أو النّظر إليها، تلك البارودة نحس، منذ جئتَ بها إلى البيت حلّت محلّك، هل أنت مجنون لتظنّ أنّ بارودة لم تعد صالحة للصيّد تغنيني عن وجودك، كي تتركها هي وترحل أنت، سأعطيها لجارنا أبي سمير ومن دون مقابل.
- لإيمتا بدّا تضل هالبارودة تحت التخت؟ بيعيني ياها وخذي هالمصريّات، أنا ببيعها لتاجر بجمّع أسلحة من الحرب، بقلي عنده بارودة من أيّام العثمانيين ووحدة اشتراها من تاجر، عارض مبلغ محترم... أترك أبا سمير يثرثر، أتوجه إلى الغرفة المعتمة، أقف بالباب حيث رأيتك آخر مرّة، أنحني، لاتزال هناك ممدّة، أمدّ يدي، باردة كحيّة ملساء، تفوح رائحة دماء وصدأ ورطوبة، أجلس، أتلمس زنادها، يدك فوق يدي «ما تخافي يا سلمى ما بتقوصش لحالها، شوفي حبيبتي بدّك تغطغي، تعالي جرّبي، ولك ما بموت الواحد ناقص عمر، تعالي يا سلمى جرّبي..ها أيوا شفتِ ما أشطرك، بتخوف شي؟» أنظر نحوك أهزّ برأسي نفيًا، تبتسم، تربت رأسي وتغمرني بقامتك الفارعة، أسألك عن الكرسيّ تستنكر وتسألني: أيّ كرسيّ متحرّك تعنين؟
- لا شيء لا شيء، المهمّ أنّك بخير.
تبتسم من جديد، أمسك يدك ويعمّ النّور.
** **
- د. وداد طه
Wedad08_t@hotmail.com