د. شاهر النهاري
يصعب أن يتفق جيلان على حب الأغنيات نفسها، فالأغنية حدث سمعي روحي مكاني زماني مؤثر، وانسجام مع تركيبة الإبداع أو الغرابة فيها، أو حدث حزن وشح عاطفي يدركه الشخص بذاته ومشاعره، وبالتزامن مع سماع تلك الألحان والكلمات المتناسبة مع حالته، ما يجعلها ترسخ في نفسه بالتقارب والاستحسان أغلب عمره، كونها تذكره بتلك اللحظات، وتستدعي معها قمة النشوة، أو تناغم روح الشباب، أو لواعج الحب أو التفاعل النفسي المميز، والذي حُفرت بصماته في العقل الباطن بكلمات الأغنية، وتراقص اللحن، ورسم في الجسد والأنفاس روعة التفاعل، والذي تختلف محاوره ومردوداته من جيل إلى جيل.
البعض تربى على أغنيات طربية مثل أغنيات أم كلثوم، الطويلة، العاطفية، والتي قد لا يستسيغها أهل الأجيال، التي أتت بعدها، لأنها لا تلامس عندهم ذكريات البدء والسماع لأول مرة، وتأثيراتها ووقعها، وربما يكون تسارع الجيل وأدواته سببًا في حدوث ذلك التباعد.
البعض عرف في مراهقته المبكرة همسات فيروز، وتعلقت شبابيكه بأغصان هدوئها، وحبها الشفيف، ومعاني رقي المشاعر، وبنوعية موسيقى عصرية شرقية، ترتقي وتعانق الفنون الأجنبية، وترسم الصور السريالية، بكل شياكة، وحنين، ولكنها أيضًا لا تناسب جيلاً لم يعرفها في بداياته، ولم يذق سحر عناقيدها.
هنالك من عرف انبثاق محمد عبده بألحانه الخليجية والبدوية والتراثية، وشعر بأنه ينهل معه من أنفاسه نفسها، ونبل كلمات غزله، ومشاعر نقاء عشقه، وموسيقاه، التي تتمايز باختلاط الهدوء والجموح، وتسكن في الذكريات، قبل أن يأتي جيل جديد، يبحث عن أشياء مختلفة ضمن مفاهيمه وتطلعاته وصرعاته.
كل مطرب وكل مطربة، شكلوا في أنفس متابعيهم صناديق ذكريات، وتفاعل هرموني كيميائي تخيلي، يشعل المشاعر، ولذلك تظل لكل منهم وقفة، ومعاني، وذكريات عند ذلك الجيل المصاحب، المتأثر، والذي حينما يكبر يستغرب من مزاج جيل جديد من بعده، لا ينسجم مع معطياته.
الاتهامات بين الأجيال تستمر باختلاف الأذواق، وكل جيل جديد، ينكر فن القديم، ويتثاقله، وكل قديم يشعر بأن الجديد، سخيف فيما يسمع وما يردد، وما يعشق.
بل وتزيد الاتهامات بين الأجيال، كون البعض يسمع بأذنيه وحواسه، وهو هادئ على أرائك الاستمتاع والطمأنينة، وجيل آخر يسمع بوسطه والطبلة وقدميه، وآخر بوركيه، وهذا يظل يهز العظمتين، وجيل آخر تتشنج رقبته ويصفق ويلتوي جسده، وجيل لا يدرك كلمات الأغنية، ولكنه يتتبع نغمات الطبول، ويهز دماغه في شبه غيبوبة، والبعض يدخل تحت وطء سماعات عظيمة تضغط على أذنيه، فلا يعود يعيش الواقع، ويخترق حجب العالم الافتراضي، وينتفض وكأنه ممسوس بطاقة كهربائية مهلكة.
الموسيقى والألحان والمؤثرات اختلفت كثيرًا، فبين جيل سمع الربابة، وربما سمع العود، وجيل سمع سيد درويش على أسطوانة مخنونة، مضحكة للأجيال الجديدة، إلى سماع عبدالوهاب وهو يتنحنح في الأستديو بين المقاطع، إلى نجاة، وهي تذوب عذوبة وليونة على المسرح والشاشات، إلى أغنيات الموسيقى الكهربائية، ثم شيلات طبول أشعار الحماس، التي يفضلها الكثير، إلى سماع الأغنيات الأجنبية، بتنوع ألسنتها، وبأفواه قد تجهل معاني الكلمات المنزلقة، ولكنها ترددها بتفاعل عظيم، وتتلبس بالأعين الزرقاء، أو بانزياح للشاذ والغريب والعجيب، وكم نسمع عمن يتيه غراما وهياما بسماع أغنية تركية، أو هندية أو برازيلية أو كورية وكل له مزاجه وتفسيراته وذكريات يحاول ترسيخها.
الأمزجة كالبهارات الهندية المتنوعة المتناقضة، ولا يمكن أن يقال عن أحدها أنه الأفضل، أو الأسواء إلا لو كان بطريق دراية ومقاييس أكاديمية، وذلك لاختلاف المنبع وذوق المتلقي، وتشابه الظروف المشتركة بين نوع من الفن، ونوع من المستمعين المهيأين بالصدفة أو عدوى الموضة، أو الواقع المعاش، وبروابط قد لا نراها، ولا نقدرها، ولكنها تمضي مثل السحر بتأثيرها في جيل بعينه، ويرسخها تأثيرات الحياة وفضاءاتها وصعوباتها، والترديد والتجدد والدعايات، والقدرة على الوصول، ومحاولة صنع الطابع المناسب للجيل، فلو عدنا لمرحلة وظاهرة الهيبز عالميًا، وما كانوا يسمعون، وما الذي له يطربون، من مختلف أنواع الموسيقى بشدة القرع النحاسي، وزمامير الأبواق الصاخبة، وتعميق جواب الأوتار، فلربما وجدناها نشازًا.
كما نجد جيلاً مال كل الميل إلى الموسيقى الكلاسيك، وما نتج عنها من مدارس جمعت حولها أجيال طربية، وحدوث تنوعات رهيبة من الموسيقى والسماع والأداء، مثل موسيقى الرأي المغاربية الحائرة بين الشرق والغرب، وغيرها مما قد لا نستوعبه، ولن نجادل الجموع في أجيال معينة تستسيغه وتتبعه، وما أغنيات المهرجانات المصرية الحالية التائهة المتهتكة، إلا نوعا من تلك الطفرات، التي يظل النقاد وكبار الفنانين ينتقدون كينونتها، وثقافة من يؤدونها، وسخافة كلماتها ومصاحبتها للمخدرات، ولكن الجمهور الحالي «عايز كده»، للتعبير عن معاناته الحياتية وتطلعاته، ولا يمكن إجبار جيل على سماع موسيقى وأغنيات معينة، لم يشعروا بها في حياتهم، ولم تكن تنمو وتثمر في خصوصيتهم، ولو برموز الشوك والحصرم يتراقص بين جماجمهم وأضلاعهم.
الأغنيات، ومهما كانت موسيقاها وكلماتها، ومهما تباينت خبطاتها، وتجاربها وقربها أو بعدها عن الفن الأكاديمي، تظل تحمل عصارة تجارب، واختيارات جيل، عبد الحليم كان له شنة ورنة في وقته، ولكن أحمد عدوية رغم محاربته إعلاميًا تغور في الذوق الشعبي العام في فترة الستينات والسبعينات، عند جيل آمن به، وعشق تكسيره للأقفال والقواعد، وأنزل الكلمة للشارع الضيق، وظل يرفعه فوق كل نغم، وكل شياكة، والفضاء الفني محيط متلاطم، لا يمكن التحكم في رتم توجهات سيره، ونقاء أمواجه ولا في فيضانه، ولا رشات أمطاره أو فيضان غمره وإزاحته.
مدارس فنية تنشأ، وبعضها لا يسمى بالمدرسة، والبعض يغيب ويضمحل، وبعضها يبلغ الإعجاز في العراقة والأكاديمية والأصول وتتبع النوتات، وعذوبة ونقاء الصوت، وبعضها يشذ، وينشز، ويدمر الذائقة الشبابية، والتراث يظل يحوي التناقض والعجب، تبعًا لتعاقب الأجيال، ولا يمكن للأكاديميات الفنية شطب نوع بعينه، ومهما تعمدت تهميشه، ودعمت وسهلت الطرق لأنواع أخرى، طالما وجد الجمهور المؤيد والمحتاج لكينونة تمثله، يجد فيها ملامحه ومتعته، والتعبير عن فترته وأزماته، وضمن مسببات قد لا ندرك خباياها، وما يتعرض له الجيل من ظروف قاسية، وبطالة، ومن تخدير، ومن نكسات، وحتى من انتشار المخدرات يزيد من رسوخ بعض تلك الطرق والمدارس.
وكم هو جميل وشاعري، وأصيل أن يرى الجيل الكبير، أحفاده يعودون لنفس نوع الفن، الذي عرفه في شبابه، كما يفعل بعض الجيل الحالي، بالعودة لبعض الأغنيات الطويلة، لأم كلثوم، وفريد، ووردة، وفايزة أحمد، ولقديم محمد عبده، ولسيدة معظم العصور فيروز، ولكن ذلك يعتبر شكلاً جزئيًا آخر من الطفرات، لا يمكن الوثوق باستمراريتها، والأمزجة أحلام عشق تسبح في بحور هائجة، وكم يصعب الجمع بين موج الذكريات، وموج الإبحار، وموج البعد، والغرق، وموج يحرث رمال الشاطئ الحالي، وينذر بقدوم تسونامي.