جواهر الرشيد
إنَّ العلاقةَ بينَ الشِّعرِ وَالشَّاعرِ هي الشُّعورُ الدَّاخلِي، فالشَّاعرُ ينطقُ الكلمةَ ويزخرفُهَا بإبداعِه وذكائِه اللغويّ وحسِّهِ الأدبيّ؛ لتصلَ إلى القارئِ كمَا أرادَ بل وأوضح، لكنَّ الشَّاعرَ الحديثَ اتَّسمَ بنوعٍ من الغموض، يجعل القارئُ يَفهمُ المعنى بتصوُّرِه بعد انطلاقاتِهِ المتعدِّدَةِ إلى عوالمِ الشَّاعر إذ لا ينفصل النَّصُّ الأدبيُّ عنه؛ لأنَّ الكتابةَ بألوانِهَا المختلِفَةِ هي روحُ الأديبِ وسرُّ خوالِجِه كمَا أنَّ مصدرَ كتاباتِه هو عقلُه وقلبُه.
إنَّ الحياةَ بظروفِهَا عكسَت على الشّاعرة (نازك الملائكة) أفكارًا وتوجّهاتٍ إيمانيّةٍ وعلميَّة، عاصرَت حوادثًا سياسيَّة كالحربِ العالميَّةِ الثَّانية وتأسيسِ الجمهوريّةِ العراقيَّة ومآسي القدسِ كمَا أنَّ الحوادثَ الكونيَّة أثَّرَت بشكلٍ أكبر في بروزِها كرائدةٍ للشّعرِ الحُرّ؛ لأنَّهَا نشرَت قصيدتَهَا (الكوليرا) وَبالرّغمِ من توجّهِ المجتمعِ العربيّ وحفاظِهِ على عمودِ الشِّعرِ إلّا أنَّ هذه القصيدةَ التي عدّلت فيها على بعضِ أوزانِ الشِّعرِ القديم لاقَت نجاحًا عظيمًا، فكانَ بروزُ الشِّعرِ الحُرِّ يجدُ مكانًا بين العَرب.
صرَّحَتْ نازك بالتَّقلّباتِ النَّفسيَّةِ والظّروفِ المأساويَّة التي عاشَتها منذُ الصِّغر واصفةً منزلَ طفولتِها، تقول: «كانت أبرزُ صفاتِ هذا المنزل أنّ أماسيه موحشة مظلمة فما تكاد الظّهيرة تنصرم حتى تلقي الجدران العالية ظلالاً دكناء معتمة». كان بعضُ الجيرانِ يطلقونَ على عائلتِهَا لقبَ «الملائكة»؛ لهدوءِ المنزلِ بأفرادِه ثمَّ شَاعَ هذا اللقبُ بين النَّاسِ، كانت تشعرُ بداخلِه شعورَ الوحدةِ والخوفِ حتى أنَّها أصبحت مع الزَّمنِ تَخشَى الموتَ لظلمةِ القبرِ.
لجأَت إلى الإلحادِ لسبعِ سنين من حياتِها وَتمسَّكَت بأفكارِهَا السَّودَاويَّةِ فلم تتمكَّن من تقبّل فكرة الموتِ أبدًا. بدأت في العشرينيَّاتِ من عمرِها بنشرِ دواوينِها الأولى والتي كانَ طابعُ الحزنِ واضحًا فيها وألفاظُ التَّشاؤمِ والتَّعاسةِ ملَأت قصائدَها وتصريحُهَا بإيمانِها جريئًا جدًّا، تقولُ في قصيدةٍ بعنوان (جحود):
إنْ يكُ الإيمان هو هذا الجُمود
فأنَا نُكران أنَا كُلِّي جُحود
نجدُ أنَّ الحديثَ في دواوينِ نازك دارَ كثيرًا حولَ فلسفةِ الحياةِ والموتِ وما يدورُ وراءَهما من خفايا، إنَّهَا بحثَت عن السَّعادةِ في كلِّ مكانٍ وعندَ مختلفِ النَّاسِ فلم تَجِدهَا، إلى أن بَدَأت في الأربعينيَّاتِ من عمرِها تنظرُ إلى الحَياةِ بمنظورٍ جديدٍ مُغَاير، فيه أملٌ وتفاؤلٌ ووضوح، وذلك بعد لجوئها إلى اللهِ الذي جعلَ السَّعادةَ تحلُّ محلَّ التَّعاسة. أدركَت بعدَ زمنٍ طويلٍ من هذه التَّساؤلاتِ والانغماسِ في القلقِ والانعزالِ بذاتِها معَ الشِّعر والكتابةِ بأنَّ السَّعادةَ هي سُقيا الألمِ بالرِّضا واللجوءُ إلى خالقِ هذا الكون بيقينٍ وإخلاص، وأنَ الموتَ راحةٌ لقلبِ المؤمنِ الموقِنِ بأنَّ ما وراءَ هذه الحياةِ إلا حياة أخرى خالية من الآلام و الأحزان، فاحتارَت في نشرِ ديوانِهَا الذي كتبتهُ عندما كانت السَّوداويّةُ تعمُّ أفكارَها وكانَت مُعنوِنَةً هذا الدِّيوان بـ (مأساة الحياة)، قرَّرَت أنْ تُعَدِّلَ عليه بلمسةٍ فيها أُنسٌ ومُسامَرَة، فأضافَت عليه (وأغنية للإنسان)، الذي ظَهَرَ فيهِ إيمانُها الكاملُ بالله، ومن الشَّواهدِ على ذلك ما جاءَ في (الهجرة إلى الله) قولُها:
عَرِفتُكَ فِي ذهولِ تَهجُّدِي وَقرنفلي أَكدَاسْ
عَرِفتُكَ فِي اخضرارِ الآسْ
عَرِفتُكَ فِي يقينِ الموتِ والأرماسْ
عَرِفتُكَ عند فلاحٍ يبعثرُ في الثَّرى الأغراسْ
وتُزهِرُ في يديهِ الفاسْ