حامد أحمد الشريف
يخطئ من يعتقد أنّ القصّة القصيرة معلومةَ القواعد والأسُس، لا يزيغُ عنها إلاَّ هالك. فلو كان الأمر كذلك لما وجدنا هذا التباين في الآراء حول القصص المتفرّقة، والمجموعات القصصيّة المنشورة، بين مادح وقادح، والاستناد في ذلك الاختلاف إلى الذائقة فقط، رغم عدمِ اتّفاق هذه القصص على نهجٍ سرديٍّ معيَّن، وتعدُّدِ اتّجاهاتِها وأساليبها الكتابيّة، وإخلالِ بعضها بما هو معلوم من القصّة بالضرورة باتّفاق نقّادها، حتّى لتجدَ بعضها يشبه ورق الجدران في خفّته وجماله، وافتقاره إلى القيمة الحقيقيّة بعيدًا عن الجدران التي يُلصق عليها. ويزيد النار اشتعالًا أنّ هذا الخلاف يحدث في كثيرٍ من الأحيان بين قامات أدبيّة لها قيمتها ووزنها، ونقّادٍ كبارٍ يُعتَدُّ بقولهم، ويهتدي كثيرون بهديهم، وذلك نتيجةَ المجاملات والتكسُّب في هذه السوق الرائجة، فيضيع المبتدئون من بينهم. سبب ذلك - في ما يبدو - تعمُّد الانشغال بشكل القصّة، وعدم التفريق بينها وبين الحكاية عمليًّا، رغم تشدُّقنا بذلك نظريًّا! والأهمّ من ذلك كلّه غضُّ الطَّرْف عن جوهرها لدى الكثير من محبّي هذا الجنس الأدبيّ، إمّا جهلًا أو تأليفًا لقلوب كُتّابها.
لقد فاقم هذا التردّي عدمُ التفاتنا - على المستوي الفرديّ - إلى محاولة فهم مكمن الجمال في القصص الإبداعيّة العالميّة، واكتفاؤنا بما يقال عنها نظريًّا، وعدم إيلائها ما تستحقّ من عناية قرائيّة تستخرج لبَّها، وتستمتع بشكلها، ومن ثمّ الاجتهاد في تقليدها قبل صناعة نماذجنا الخاصّة. يمكن أن نعزوَ ذلك إلى وقوفنا عليها بصفتنا قرّاء لا كتّابًا؛ وهناك اختلاف جوهريّ بين هذا وذاك. كما تلاحظون، أنا أتحدّث هنا عن الكتّاب المبتدئين، لا عن المبدعين والكتّاب الكبار ممّن اجتازوا كلّ هذه المراحل، ووصلوا إلى صناعة نموذجهم المستقلّ، وخلقوا قيمة حقيقيّة لأقلامهم (كتابة ونقدًا).
رغم أهمّيّة ما ذُكر، إلّا أنّ المعضلة الحقيقيّة تكمن في التنزيل على أرض الواقع، وهي آفة كلّ القوانين التي غالبًا ما تفقد قيمتها عند تطبيقها، حين ينهض بهذا الأمر أناس لم يكونوا هم المشرّعين للقوانين، الفاهمين لأسرارها وأبعادها. وقد يكون في طرح الأفكار كتابةً وحديثًا ما يُفسد فهمَها، وبالتالي يؤدّي إلى جنوح في تطبيقها؛ فكثُر هم من يحفظون قواعد كتابة القصّة عن ظهر قلب، وينظّرون حولها، لكنّهم لا يجيدون تطبيقها على أرض الواقع كتابة، ولا يحسنون استخدامها في فرز القصص وانتقاء أفضلها، مع أنّهم عندما يتحدّثون يدفعونك لأن تُنصت لقولهم، بل تحني رأسك احترامًا لإدراكهم وفهمهم، وما يسوقونه من شواهد لتدعيم رأيهم. هذا الأمر يمكن ملاحظته في نتائج المسابقات المختلفة، في حال تجاوزنا التعمُّد الذي يحدث في كثير من الأحيان، لأهداف لا علاقة لها بقيمة النصوص، عندما نرى قصصًا باهتةً يتمّ الاحتفاء بها وتتويجها!
لذلك، من المهمّ القول إنّنا بحاجة ماسّة، في أيِّ طرحٍ تنويريّ، للنّماذج الجيّدة لكي نستشهد بها، ونوصل من خلالها المعاني التي نريدها، وهو النهج الذي اتّبعه القرآن الكريم في تربيته للمسلمين، اعتمادًا على طرح الأمثلة عن الأمم السابقة، وعن السلوكيّات المنتقَدَة في أوامره ونواهيه، حيث أنّ الإتيان بنماذج معزِّزة للمعاني المستهدَفَة، يضمن وصول المعلومة بأيسر السبل، ويُبقي أثرَها، ويحقِّق المرجوَّ منها. لذلك أيضًا، تُعتبَر «الخبرات غير المباشرة» في المرتبة الثانية بين الأدوات المعِينة على إيصال المعلومة، حسب مخروط «إدجار ديل»؛ فطرْح الأمثلة يصنَّف ضمن الخبرات غير المباشرة، ولا يعلوها إلّا الخبرات المباشرة التي نتحصّل عليها من خلال تجاربنا الحياتيّة المباشرة التي يعيبها ما يحيط بها من أخطار قد لا ننجو منها؛ بينما الحديث المرسَل المعتاد، هو تلقين يفتقر إلى الوسائل المعِينة على فهمه، ويُعَدُّ أسوأ الطرق لنقل المعلومات، وهو غالبًا ما يتسبّب في اضطراب التفسيرات والتأويلات. وتزعم الإمّعات ممّن لا يحسنون غير اقتفاء الأثر، والسير خلف السابقين حذو القذّة بالقذّة، وإفساد المشهد بسوء قراءتهم وعدم قدرتهم على التمييز بين الغثّ والثمين. وتحلّ الكارثة في مجالنا الكتابيّ عندما يتزعّم هؤلاء بعضُ المتزمّتين من النحاة وأهل اللّغة، ممّن يعتقدون أنّهم وحدهم من يملكون مفاتيح الأدب بكلّ أجناسه (قولًا ونقدًا)، ويعتبرون كلّ مبدع لا يخرج من تحت عباءتهم دخيلًا ينبغي محاربتُه وطردُه وتنقيةُ الأجواء الأدبيّة منه، قبل أن يستفحل خطره، ويعمّ البلاء.
علينا الانطلاق في حديثنا حول الكتابة الإبداعيّة للقصّة القصيرة متجاوزين كلّ العقبات التي قد تبطئ سيرنا، لنقول أنّ الوصول إلى كتابة هذا النوع من القصص، يتطلّب الوقوف عند محطّات مهمّة جدًّا، كحديثنا بداية عن الفرق بين الصناعة والتلقائيّة التي تُعَدّ موضع جدل بين مبدعي ال قصّة، إذ ترى فئةٌ أنّ التدخّل في تدوين القصّة يُفقدها روحَها، ويجعلُها مجرّدَ صناعة. وفي الأدب - كما هو معلوم - غالبًا ما نركن إلى العفويّة والتلقائيّة، ونعدّ النصوصَ المصنوعة صورةً مشوَّهة للأدب الحقيقي الذي تجود به قريحتنا دون تدخّل منّا، كما هو الحال مع الشعر الذي قد تجري به ألسنتنا، ويتناقله الركبان قبل تدوينه. يمكن قول ذلك عن باقي الأجناس الأدبيّة، بشيء من الاختلاف من ناحية العرض؛ لكنّنا ننسى هنا أنّ الشعر له بحر، وميزان، وقافية، وموسيقى شعريّة تكفل له أن يخرج ناضجًا مكتملًا، بحيث لا يحتاج للتدخُّل فيه لاحقًا، بل يكون تدخُّلنا ممّا يفقده قيمته، وإن حدث فلا يكون إلّا على نطاق ضيِّق، ويقتصر عادة على تصويب الأخطاء، وإظهار جماليّة معيّنة لم تكن ظاهرة، من دون المساس بالعمود الفقري للقصيدة. أمّا بالنسبة للقصّة والسرد بشكل عامّ، فالأمر يختلف؛ ذلك أنّ الكتابة السرديّة - كما هو معلوم - لا ضابط قويًّا لها، ويمكن الخروج على بعض قواعدها الأساسيّة بأيسر السبل، طالما كان في تقيّدنا بشيء منها ما يكفل لنا تجنيسها واعتبارها سرديّة مكتمِلة، أو لنقل. إنّ هذه الانتقائيّة في تطبيق القواعد تخلق لنا الاختلاف حولها، وهو غاية ما يتمنّاه بعض الكتّاب لتمرير نصوصهم، متجاهلين أنّها على المستوى الإبداعيّ، لن تكون إلّا سرديّة رديئة، يُستشهَد بها للدلالة على انحدار مستوى الكتابة، في وقت نحن بأمسّ الحاجة إلى كتابة نصوصٍ إبداعيّة يشار إليها بالبنان، ويدوم أثرها، ويتربى على حروفها كلّ مفتون بالكتابة؛ وذلك لن يتحقّق دون فهم حقيقيّ، وتدخّلات كبيرة ترافق البداية، حتّى نتمرّس، ونستطيع إنضاج القصّة من الوهلة الأولى، من دون الحاجة للتدخّلات الجوهريّة التي كنّا نفعلها في بداياتنا؛ وهي المرحلة المتقدّمة التي يتحدّث عنها كتّاب القصّة العظام، ممّن برعوا في كتابتها، وأتقنوها من المرّة الأولى.
هذه المرحلة يمكن الوصول إليها بطريقتين، أولاهما تتلخّص في تشكّل ذائقتنا القصصيّة، وتحوّلها إلى قدرات كتابيّة تتّخذ من التلقائيّة والعفويّة نهجًا لها، بانضباطيّة عالية أوجدتها المرحلة القرائيّة الجيّدة، كما يحدث عادة مع الشعر، عندما تتشكّل موهبتنا الشعريّة نتيجة حفظنا لعدد وافر من القصائد. فالقصّة يمكن أيضًا كتابتها بهذا التسلسل الإبداعيّ الذي ينطلق من المطالعات العديدة للنماذج الرائعة التي تؤطِّر كتاباتِنا مستقبلًا، من دون تدخّلنا في ذلك. والطريقة الأخرى تتعلّق بالمحاولة، والصح والخطأ، وأخذ المشورة، أي الوصول للإقناع الإبداعيّ من خلال التجربة المباشرة. ولكن، يعيب هذه الطريقة عدمُ القدرة على الفرز الذاتيّ وتبيان الصالح من الطالح، ما يتسبّب في اختلاط الحابل بالنابل، فنجد أنّنا قد ننحاز في كتاباتنا تبعًا لقراءة سيّئة أو مشورة غير جيّدة، إلى كتاباتٍ غير إبداعيّة، ونستمرّ على هذا النهج معتقدين أنّها مدارس معيّنة، ومناهج مختلفة، وأذواق تقتضي قبول هذه ورفض تلك، بينما الواقع بخلاف ذلك؛ فالإبداع شيء مختلف تمامًا، وقد نفقد البوصلة وتضيع هويّتنا إن فعلنا ذلك، فلا نعلم أيَّ الناصحين على صواب. ويكون خروجنا من هذه المعضلة الكبيرة بالفهم أوّلًا، والإلمام بقواعد اللعبة ثانيًا، ومن ثمّ الانطلاق في تجربتنا القرائيّة الانتقائيّة، وصولاً إلى الإتقان الكتابيّ. وهذا هو المعمول به في كلّ المجالات الإبداعيّة، فالتعليم والتأسيس الجيّد يزيدان غلّتنا من المبدعين، بينما التقليد الفوضويّ يجعلنا ننتظر المجدّدين على رأس كلّ مئة عام.
وللحديث بقيّة حول صناعة القصّة الإبداعيّة.