سهام القحطاني
كانت أول جريمة في البشرية هي نتيجة «الشخصنة» عندما ربط قابيل «معيار القبول للطاعة والتقوى» بهابيل وليس بنوع العمل المٌقدّم، ووهم الأحادية هنا بين حاصل القبول وسلوك التنفيذ هي التي أتاحت للشيطان فرصة السيطرة على عقل قابيل وسلوكه.
فهل «الشخصنة بكافة أنواعها الثقافية أو العنصرية أو الدينية «هي جزء من الطبيعة البشرية؟
منذ البدء والإنسان يسعى إلى «تحقيق وهم الكمال»، وسلّم الكمال لا يتحقق إلا بالأحادية وفي المقابل فإن الاختلاف يهدد هدف الكمال وينتقص من غايته، والمسألة لا تتعلق بهدف الكمال، بل وهو الأهم «بمطلق القوة» هذا الوهم التي بُنيت عليه «أيديولوجية القطبية» إما أن تكون معي أو ضدي، القطبية التي تأسست في ظلها أصل الصراع.
وبذلك ظلت وستظل «الشخصنّة بصيغها الوصفية «دوماً مركزاً للصراع بين الفئات والجماعات والشعوب قدر وقرار.
وليست الثقافة عبر التاريخ هي التي تأذت من «الشخصنة»، بل كل جديد يهدد جدار النسق، لكن الثقافة كانت الأبرز لأنها المواجه الواضح لجدار النسق.
والثقافة العربية قديمها وحديثها تمتلئ بنماذج تندرج تحت عنوان الثيمة السابقة.
بدءاً من «طبقة الشعراء الصعاليك» في الشعر الجاهلي، أول «شخصنة ثقافية» عرفها تاريخ الأدب العربي.
وما قيل عن «الصعاليك» حسب رواية عصرهم، -وكل رواية تظل متأرجحة على حبل تهزه رياح الشك في صدقيتها وموضوعيتها-
إنهم مجموعة خارجة عن تقاليد القبيلة العربية كانوا يكتسبون رزقهم من خلال السلب والنهب من أغنياء القبائل ولا يحترمون معاهدات السلم بين تلك القبائل، لكن لو قرّبنا الصورة ثقافياً على إنتاجهم الشعري سنجد أن هذه الطبقة من الشعراء تمردوا على «قدسية هيكلية القصيدة الجاهلية» فاستبدلوا المقدمة الطللية بالمقدمة الفروسية وحرروا جو القصيدة من «عالمها المزيّف « إلى «الواقع» الذي كان يعيش فيه الشاعر الصعلوك فتجاوزت القصيدة خاصية المطولات إلى خاصية المقطوعات توافقاً مع طبيعة حياة الشاعر الصعلوك.
يقول عروة بن الورد:
أيا راكبا إمّا عرضتَ فبلّغنْ
بني ناشب ومن يتنشب
آكلكم مختار دار يحلها
و تارك هُدم ليس عنها مُذنب
فلم تعدّ القصيدة العربية الوجه المثالي للشخصية العربية، بل كشفت عيوب تلك الشخصية، وكان خروج هذه الطبقة على «النسقية الثقافية للقصيدة العربية» يلزم عقاب حبسهم في «توصيف الصعاليك».
فلم ينظر السائد الثقافي إلى النظام الشعري الذي قدمه الصعاليك بأنه «تجديد للقصيدة الشعرية» واعتبرهم من المجددين، بل توّغل ذلك السائد في إقصائهم ليُقدم للآخرين «رمزيّة عقابية» لكل من يحاول الخروج على النسق الثقافي.
«فصفة الصعاليك» «وصمة عار» لهذه الطبقة ليتم إلحاقها «بإنتاجهم الشعري الذي كان بداية التجديد الشعري في الأدب العربي»، وقد نجحت هذه الإستراتيجية لشخصنّة الإنتاج الشعري لهذه الطبقة من الشعراء ليخلّدها التاريخ بصفة وصمة العار الذي سعي إليها السائد الثقافي ليُطلق على ذلك الإنتاج «شعراء الصعاليك» لتغلب الدلالة الشخصية على القيمة الفنية لهذا التجديد الشعري.
إن الشخصنة الثقافة لا تتحول إلى علاقة فكرية سامة إلا إذا تجاوزت أو هددت «كمالية النسق الثقافي وشجعت على المراجعة أو التحدي أو إضافة جدار آخر».
بعد الخلاف السياسي الإسلامي بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وانقسام المسلمين، هذا الانقسام الذي كان حاصله ظهور أول شخصنة ثقافية في الإسلام وهم «شعراء الخوارج» هذه الشخصنة الثقافية كان الغرض منه ذات الغرض لتحويل إنتاج الصعاليك إلى علامة ثقافية تحمل دلالات العار لكن بإضافة جديدة لشعراء الخوارج تتعلّق بالفتنة المذهبية، وبذلك تراجع العامل الاجتماعي الذي كان سبب الشخصنة الثقافية عند الصعاليك في الجاهلية إلى العامل الديني.
فالشعر في هذه الحقبة كان بمثابة الإعلام الموجه عند طرفي الخلاف والصراع.
فتقويس وصف شعر الآخر المختلف «بصفة الخوارج» هو سحب الصفة السياسية إلى إنتاج شعراء المؤيّدين لطرف الصراع والخروج على الجماعة «لشخصنة إنتاجهم بتلك الصفة»؛ كوصمة عار انتقلت من الموقف السياسي إلى الإنتاج الشعري.
وفي العصر العباسي ظهرت شخصنة ثقافية تجلّت في وصف طبقة من الشعراء ليسوا من أصول عربية وهي «طبقة المولدين» هذه العلامة الاجتماعية التي تحوّلت إلى علامة ثقافية وصفية غالباً رافقتها «وصمة العار» تحولت بعد ذلك إلى اتهامات بالزندقة والكفر.
فتمرد الشعراء الجدد على منهج القصيدة العربية الجاهلية هي التي دفعت حراس السائد الثقافي بمعاقبتهم من خلال العودة إلى جذورهم واستغلال تلك الجذور كمبرر لصياغة «وصمة العار» وإيجاد الشرطية اليقينية بأن من لا يملك جذوراً عربية يسعى إلى هدم تاريخ الشعر العربي الذي هو أساس أصالة الهوية العربية، ولم يكتفِ السائد الثقافي بعقاب المجددين بوصمة العار العنصرية بإخراجهم عن دائرة العروبة واعتبارهم إضافة عرقية لا يجوز لها التلاعب في قيمة جذور التراث العربي المتمثل في منهج القصيدة العربية.
وظلّت مسطرة الشخصنة هذه قياس يُجلد بها كل مجدد في التاريخ العربي، شخصنة هُدمت باسمها الكثير من صوامع الثقافة والمعرفة وسٌفكت بقياسها الكثير من الدماء.
لتظل الشخصنة الثقافية وإن تعددت غاياتها ما بين الحماية الفاسدة وحماية المقدّس هي العقاب الأكثر شيوعاً ضد «المجددين في كل زمان ومكان» أو «المرتدّين عن ثقافة السائد.