د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
عُيّن أخي رُشَيْد -رحمه الله- في (المدرسة السعودية)-مدرسة الحسين بن علي الآن- وكنت أدرس فيها ومديرها أخي محمد -أمدّ في بقائه- وكان من حسن حظي أن كلّف تعليمنا درسي المطالعة والقواعد فكلفنا بتعليمه، كانت طريقته في التعليم ممتعة، كان ماهرًا في تيسير دروس القواعد، حريصًا على تجويدنا إياها بالتدريبات الكثيفة، لم نجد ثقلًا ولا كراهة لدروس القواعد كما يجدها غيرنا، ولما كان الطلاب ليسوا على مستوى واحد من الجد والمثابرة كان المعتاد في تلك الأيام أن يعاقبوا، وكان العقاب أمرًا مألوفًا لا ينكره الطالب ولا أهله؛ بل إن منهم من يوصي المعلمين بتشديد العقاب حرصًا على التزام الطالب بالتعلم، وكان من عباراتهم المجازية (لكم اللحم ولنا العظم)، ولم يكن أخي رُشَيْد من المعلمين الذين يسرفون في العقاب حتى يحولونه إلى عذاب، بل لا تخلو طريقته من دعابة تمتع المعاقَب أيضًا، فتراه يضحك وهو يُعاقب، كان أخي يتجنب أن تمس عصاه النحيلة أماكن حساسة من جسد الطالب، فكان من طريقته أنه يزوي ثوب الطالب ثم يضرب مؤخرته ضربًا رفيقًا غير مجزع وغير تارك أثرًا.
كانت المرحلة الابتدائية مرحلة تعليمية بالغة الأهمية، فمن يحصل على الشهادة يجد من الأعمال الكتابية ما يناسبه، وكانت (وزارة المعارف) أي وزارة التعليم تهتم اهتمامًا بالغًا باختبار السنة السادسة، فكانت الأسئلة تعد في الوزارة نفسها، وهي أسئلة جماعية لكل طلاب هذه السنة في جميع مدارس المملكة، كانت توضع نسخ الأسئلة بعدد طلاب مدارس كل مدينة أو قرية وتحفظ في أظرف مغلقة بالشمع الأحمر المختوم الذي لا يفك ختامه إلا ساعة الاختبار، ويجتمع طلاب جميع مدارس المذنب في مدرستنا (المدرسة السعودية) في لجنة واحدة من المراقبين، وأما رئيس هذه اللجنة فينتدب من مدينة أخرى، من المراقبين الذين عرفتهم الأستاذ عبدالرحمن العليّان من عنيزة، وكان رئيس اللجنة التي أشرفتْ على اختبارنا الأستاذ عبدالله المشعلي من بريدة.
وفي يوم اختبار القواعد رأيت أخي يبكر في حضوره إلى المدرسة، ويدعو جميع طلاب المدارس إلى فصل من الفصول ليراجع معهم القواعد ويدربهم عليها ويذكرهم بأهمها، كل ذلك إذكاءً لمهاراتهم وإنعاشًا لذاكرتهم، ولست أنسى ما صاحب ذلك من طرائف، من ذلك أنه سأل طالبًا أن يأتي بمثال للحال تكون جملة اسمية، فأجب الطالب «ضربت البنت وهي نائمة»، فضحك أخي وداعبه قائلًا «ليش الله يهديك»، دخلنا الاختبار ونحن في ثقة من مهاراتنا فوفقنا الله إلى ما نحب، وحين خرجت من الاختبار صادفت مدير (المدرسة الفيصلية) الأستاذ محمد الجار الله فأخذ ورقة الاختبار منّي، وراح يسألني بما فيها، يريد أن يطمئن إلى إجابتي فأجبته فابتسم ابتسامة رضا لما وجدني موفقًا في كل جواب.
وكلف أخي الإشراف على فرقة (الأشبال) في المدرسة، وكان لهذه الفرقة ملابس رسمية خاصة، نزاول التدريب يومًا كل أسبوع في غير وقت الدراسة، كان لقاء الأشبال من أمتع اللقاءات وكانت قيادة أخي الذي لقبه في الفرقة (أكيلا) قيادة رائعة لم يكن يسرف في الأعمال الشاقة، وأمتع ما نجده حين نتحلق في دائرة ويقص علينا قصة (الشبل ناعم الظفر)، كان من مهارته أنه يتوقف عند حدث مهم يجعلنا ننتظره بشوق إلى الأسبوع القادم، علمنا كيفيات من عقد الحبل وهي دروس انتفعت منها في حياتي، ومن الأمور الطريفة نداء (أكيلا) الذي يستجيب له الأشبال المتفرقون إذ يركضون نحو مصدر الصوت وهم يصرخون صرخة استجابة مميزة، وكانت هذه الصيحة فقرة تعرض في حفلات المدرسة، فيفاجأ بها الحضور حين يتقافز الأشبال من جهات مختلفة متحلقين حول (أكيلا). كان أخي معلمًا قديرًا وإنسانًا رائعًا لا يلقاك إلا مبتسمًا ذا أريحية لا توصف، يداعب مجالسه بلطف وذوق فيمضي الوقت معه دون أن يحس، كان له قدرة عجيبة على التعالي على المشكلات والهموم فلا تراها ظاهرة عليه مهما عظمت.
كانت العصامية من أبرز صفات أخي رُشَيد، لم يقنع بشهادة معهد المعلمين، إذ شرع في دراسة المرحلة المتوسطة إلى جانب عمله، وحين تعلم اللغة الإنجليزية لم يكتف بالمقرر وبما يفي بالنجاح بل عمق الدرس، كنت أراقبه وهو يكتب في دفتر ليس من دفاتر المدرسة الكلمات ويكرر كتبها حتى يحفظها، أتقن اللغة الإنجليزية تحدثًا وكتابة، وبعد عودته من التعليم في حضرموت منتدبًا مدة عامين واصل دراسته الثانوية حتى تخرج بامتياز، ولما كان من المتعذر عليه الانتقال إلى الرياض لإكمال المرحلة الجامعية اضطر إلى اغتنام فرصة الانتساب الذي كانت الجامعة تتيحها في ذلك الوقت، وتخير قسم التاريخ في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود الآن)، في هذا الوقت كنت أدرس فيها، وكان هذا معينًا له، إذ كنت أختلف إلى طلاب قسم التاريخ وآخذ منهم الملحوظات والمذكرات، ومن أعجب الأمور أن طلاب الانتساب ربما تفوقوا على طلاب الانتظام، وكان أخي من هؤلاء المتفوقين لشدة رغبته في التعلم، وفي آخر سنة له في هذا القسم كنت معيدًا في الكلية وكلفت المراقبة، فكنت سعيدًا وأنا أراه جالسًا للاختبار، هذا أخي معلّمي طالب يختبر وأنا مراقب عليه، حرصت أن أحضر له كوبًا من الشاي، فأشار إلى أحد زملائه أن أضيّفه أيضًا ففعلت ذلك مسرورًا.
إن ما تعلمته من أخي رُشيد -رحمه الله- من دروس الحياة يفوق ما تعلمته من دروس المطالعة أو القواعد، ولكن تعليمه لي قواعد العربية كان من أهم عوامل حبي للعربية وقواعدها حتى غدت هي محور تعلمي وشغفي.
رحم الله أخي الذي انتقل إلى جوار ربه صباح يوم السبت 14 صفر 1444هـ الموافقه 10 سبتمبر 2022م.