وإذا جاء الطَّرح عاطفيّاً محضاً خالصاً عُدَّ ذلك منقصةً إذ لا ثمرة يحقِّقها هذا الطَّرح سوى ما في نفسِ طارِحِهِ، وكذا إذا سيطرت العاطفة والتَّحيُّز والرَّغبة على أيِّ عملٍ أو مشروع بما نسبته 30 % وما فوقها، كان طرحاً عاطفيّاً بيِّناً؛ لأنَّه الثُّلث، والثُّلث كثير، ولا يسمَّى هذا الطَّرح علميّاً خالصاً وهو غير مقبول إلَّا إذا صحِّح ما فيه من أحكام عاطفيَّة ومزالق رغائبيَّة، ونبِّه إليها، وقرنت به ونُشِرت معه، وهذا حال كلِّ شيءٍ فيه مخالفات بيِّنة نسبتها ظاهرة بيِّنة لا خفيَّة نادرة؛ فهو غير مقبول إلَّا ببيان ما فيه من مخالفاتٍ وملحوظات، ولو مثلنا ذلك بمثال يوضِّح ذلك، وأضربه مثلاً لو في كتاب مطبوع جملة ما فيه من الأخطاء المطبعيَّة 30 % أو تتجاوزها، فالنَّفع منه مشكل، بل ربما ضرَّ أكثر ممَّا نفع حتَّى تجرَّد وتصحَّح وترفق معه لتُتدارك فيُنتفع حينئذٍ به، وأمَّا إذا كانت نادرة وما في حكم النَّادر، فالنَّادر لا حكم له إذ لا معصمة منه.
وللعمر والسِّن دور مهمٌّ في ذلك، وأمر سيطرة العاطفة يقع فيها الصِّغار والكبار، وهو مثلبة في البحث العلميِّ أكان ذلك من صغيرٍ أو من كبيرٍ، على أنَّها غالبة على ما يكتبه ويبحثه الصِّغار، ولا أعني صغار القيمة بل صغار السِّنِّ، إذ العاطفة هي الَّتي تغلب على من هو في هذا السِّنِّ وإن كان باحثاً مجيداً، إذ من دون الأربعين عاطفيٌّ أكثر، والأربعون فارق فما قبلها ليس كما بعدها لذا مَن بلغها يقال بلغ الأشُدَّ، فمن كان دون الأربعين في الغالب أن يكون له أستاذ أو قدوة يتمثَّلُه ويأخذ بقوله، وينتصر لرأيه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وإذا بلغ الشَّخص الأشدَّ أعني الأربعين واجتازها انفرد شيئاً فشيئاً وابتنى له خطّاً خاصّاً به، وربما راجع قناعاته وغيَّر من آرائه، ويكون إذا دافع دافع عن قناعةٍ لا عن عاطفة اتِّباعٍ ومحبَّة أستاذ، وهو بعدُ يتخفَّف ممَّا كان يأخذ به وما به يتقيَّد.
وبناءً على ما سبقَ فمَن دون الأربعين إذا جاءت منه في البحث العلميِّ مآخذ عاطفيَّة، ومستوقفات من هذا النَّوع ومنتقدات من هذا المنعطف، وهي لا تغتفر منه، بل هي منتقدة ومأخوذة عليه، غير أنَّه من طبيعة هذا العمر من النَّاحية الأنثربيولوجيَّة/ السَّيكولوجيَّة، وبحكم سِنَّه فهذا وارد عنده؛ إذ ما قبل الأربعين تسيطر على الذَّات العاطفة كما أسبقت به حديثاً، خلافاً لمن تجاوز الأربعين إذ يكون ناضجاً في تفكيره يغلب عقله عاطفته أو هما متعادلان، وكلَّما زاد في العمر رجحت حصاة عقله واستوى، وكان حكيماً عليماً في قوله وفي فعله وسلوكه وطرحه، فلا يصدر عن جهلٍ وغشيان عاطفةٍ ولا ينبغي له ذلك.
وعلى كلِّ حالٍ إنَّ المقصود من انتقاد وجود العاطفة والتَّحيز والانطباع وغلبة الهوى ليس المذمَّة، إذ المذمَّة مذمَّة، وذلك أسوأ ما يكون إذا ما قُدِّم ما قُصد به المذمَّة والتَّنقُّص أنَّه طرح علميٌّ أو جاء في منتج أو منشورٍ يوسم بالعلميَّة، ويرسم ويصنَّف لأهل العلم والتَّخصُّص أنَّه مرجع في مسألة كذا، أو مشكلة كذا، أو قضيَّة كذا= فإن كان فيه تلك العقبات كان ذلك مانعاً من الانتفاعِ به، ورافعاً الاستفادةَ منه، ويبعد الثِّقةَ فيه من طروح ومناقشاتٍ.
والمعتاد ألَّا يصنعَ ذلك منتجاً وعملاً علميّاً في مسألة أو مشكلة أو قضيَّة ليقطع فيها من أجل أن يكون مرجعاً فيها إلَّا كبار الأساتذة، مَن لهم قدم راسخة في علم تلك المسألة أو المشكلة أو القضيَّة سبرَ غورٍ ومناقشةَ آراءٍ، فإن كان طرح هؤلاء طرحاً غير علميٍّ أو نسبة العاطفة وغير العلميَّة بيِّنة ظاهرة كان غير مغتفرٍ، وهو مشكل الخطر، والضَّرر من عمله غير مستبعد، وإن كان من أكاديميٍّ فذاك أشدُّ ضرراً على الحياة العلميَّة وأفتك، وإن كان ممَّن قد فرط له على بلوغه الأربعين كثيراً فذاك أشدُّ ضرراً وأنكى أثراً؛ لأنَّ هذا الأكاديميَّ الكبير له مريدون وتلاميذ وأتباع، والأغلب أنَّهم أغمار وصغار الأعمار لم يبلغوا الأربعين، يتابعون شيخهم هذا الأكاديميَّ ردحاً من السِّنين، إذ هم في سنٍّ تغلب عليهم العاطفة وينهجون الاتِّباعَ لمن يأخذون منه ويصدرون عنه ويدرسون عليه ردحاً من الزَّمن، ويتلبَّسون التَّقليد مذهباً، وربَّما نقلوا هذا الرَّأي أو ذا القول إلى غيرهم ممَّن يثق بهم، وسيبقون اتِّباعيين إلى أن يبلغوا مرحلة النُّضج في الأخذ والقبول والرَّفض والرَّدِّ والنَّقد متجردين من أيِّ تأثيرٍ، وذلك نظراً في الأصول وتمييزاً بين القواعد، ومعاقد النَّظر في القبول والرَّدِّ.
هذه هي الطَّريقة الَّتي يسير عليها التَّلامذة والمريدون مع أساتذتهم، وهذا الصَّنيع من الأستاذ بالوصف السَّابق مشكلٌ، وغير مقبول في الحياة الأكاديميَّة والوسط العلميِّ، بل يوجب الوسط الأكاديميُّ مبرَّةً بالحياة العلميَّة وأداءً لحقِّها بيانَ هذا الإشكال والوقوف عليه، والدَّلالة على ثغراته وبيان المآخذ والملاحظ الموردة على قوله إن قال، أو على كتابته إن كتب، أو في تصنيفه إن صنَّف.
والمنجي في مثل ذلك والمخفِّف منه بيان تلك المستوقفات لتجعل المطَّلع على ذلك المنتَج يطَّلع عليه وبصحبته بيان تلك المآخذ والملاحظ الَّتي انعطف صاحب الطَّرح والمعالجة بسبب غلبة العاطفة وسيطرتها وما إليها عن الجادة، وحاد عن طريق النَّصف والحقيقة، وذلك كيما لا يطرح الكتاب ويطلب رغبةً في فوائده مع وجود تلك الملاحظ عليه، بل تُساق تلك الملاحظ مع الكتاب وترفق معه، فحاله كحال الكُتب المطبوعة في وقتٍ سالف إذ كانت ترفق مذيَّلةً بقائمة بالأخطاء الطِّباعية؛ فحينذاك يُفاد من الكتاب تمام الفائدة ولوجود المستدركات عليه معه. [متبوع]
** **
- د. فهيد بن رباح الرباح