رؤية - خالد الدوس:
اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء علم الاجتماع وميادينه، واستخدام مناهجه العلمية في دراسة المجتمع البشري وظواهره، واكتشاف قوانين النظام الاجتماعي الذي يحافظ على استقرار المجتمع وضبط توازنه. وقد أسهم كثير من المفكرين والمنظرين والعلماء في إثراء هذا الميدان العلمي الخصيب، وإشباع اتجاهاته السوسيولوجية. ومن أهم المنظرين والباحثين في علم الاجتماع في بريطانيا عالمة الاجتماع هارييت مارتينو (1802-1876) التي تعد أول امرأة عالمة اجتماع ولقبت من بعض العلماء المعاصرين «بأم علم الاجتماع».
ولدت هارييت مارتينو عام 1802م في إنجلترا من عائلة مستقرة ماديا وأكثر ثراء من معظم العائلات البريطانية في تلك الحقبة الماضية، وكان والدها مارتينو يملك مصنعا للنسيج ومصنعا للسكر وكانت هارييت الطفلة السادسة بين ثمانية أطفال ولدوا (لأسرة مارتينو) وكانت هذه العائلة تهتم بالتعليم فقط للأبناء الذكور فتلقت باقي تعليمها في المنزل بعد أن كانت تعاني من قسوة أمها وصممت على تعليمها منزلياً بعد أن تعلمت في المدرسة فترة قصيرة، وهذا ليس بغريب أن يحدث في عصر ركز التعليم على الذكور..!! وعندما وصلت هارييت سن الخامسة عشرة أصبحت تهتم بالاقتصاد والسياسة والاجتماع، ونشرت اول عمل مكتوب لها بعنوان (تعليم الاناث) عام 1821 كمؤلفة مجهولة، وكان هذا العمل بمثابة نقد لتجربتها التعليمية الخاصة وكيف تم إيقاف هذه التجربة رسميا عندما بلغت سن الرشد وتعلمت منزليا، فيما كان النظام في تلك الحقبة يقتصر (التعليم المحدود) للفتيات في إنجلترا والباقي يتعلمن الاعمال المنزلية فقد خالفت كل التوقعات التقليدية عن الجنسين وكتبت على نطاق واسع عن عدم المساواة بين الجنسين بعد أن واصل اشقاؤها الذكور تعليمهم الجامعي بينما توقفت عن التعليم الجامعي لكن بحبها للعلم وإرداتها القوية وأفقها الواسع تفوقت على كل اشقائها في المجال الإعلامي والعلمي، ففي سنواتها الأولى ككاتبة دعت إلى مبادئ اقتصاد السوق الحرة بما يتماشى مع فلسفة الأب الروحي للاقتصاد (آدم سميث) كما دعت عبر حسها المهني الرفيع إلى اتخاذ إجراءات حكومية للقضاء على عدم المساواة والظلم وذكرها البعض على أنها مصلحة اجتماعية بسبب إيمانها بالتطور التدريجي للمجتمع بين الذكور والاناث بالذات في مجال فرص التعليم الجامعي.!! كما اعتمدت العالمة الراحلة (هارييت مارتينو) الموقف الفلسفي للتفكير الحر الذي يسعى اتباعه إلى الحقيقة بناء على العقل والمنطق والتجربة بدلاً من أوامر السلطات والتقاليد أو العقيدة الدينية ويتردد صدى هذا التحول مع تقديرها (لعلم الاجتماع الواقعي) للمفكر الاجتماعي (أوجست كونت) وإيمانها بالتقدم.
وفي عام 1832 انتقلت إلى لندن فعاصرت ولازمت كبار العلماء والمفكرين البريطانيين ومنهم العالم مالتوس وميل وجورج ايليوت وتوماس كارلي فكانت تركز كثيرا في اعمالها وكتاباتها في الاقتصاد والسياسة حتى واصلت كتابة سلسلتها (السياسة الاقتصادية) عام 1834م، وبعد الانتهاء من مشروعها سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الاقتصاد السياسي الجديد والظاهر الاجتماعية وهناك نشرت أبحاثها الاجتماعية وكانت معظمها عن تعليم النساء وتأثيرها على البناء الاجتماعي، وكانت مساهمة هذه العالمة الرئيسية في علم الاجتماع هي تأكيدها على أنه عند دراسة المجتمع على المرء التركيز على جميع جوانبه وأهمية فحص المؤسسات السياسية والاجتماعية والدينية من خلال دراسة المجتمع وانه يمكن للباحث أن يستنتج وجود سبب عدم المساواة خاصة تلك التي تواجهها النساء في كتاباتها والقضايا الاجتماعية مثل العلاقات العرقية والحياة الدينية والزواج و الاطفال والاسرة، رغم انها لم تتزوج ولم تنجب أطفالاً.!! لأنها سخرت وقتها في الأعمال الإعلامية والأبحاث العلمية خاصة وأن منظورها الاجتماعي النظري كان يركز على الموقف الأخلاقي للشعوب والمجتمعات وكيفية توافقه أو عدمه مع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع البشري. واشتهرت العالمة الراحلة (هارييت) في الأوساط العلمية والأدبية بأنها عالمة اجتماع ومهتمة بالاقتصاد والسياسة وبلغت مؤلفاتها أكثر من عشرين كتاباً، وأهمها كتاب (الحياة الشرقية) عام 1848 وكتاب (صور توضيحية للاقتصاد السياسي) عام 1834 وكتاب (التعليم المنزلي) عام 1848 واشتهرت أكثر بعد نشر كتابها عن الرحلة إلى الدفاع عن حقوق المرأة الإنجليزية كما كتبت بشكل منتظم في جريدة دايلي نيوز من عام 1852 حتى 1866 وبلغ عدد مقالاتها في تلك الجريدة 1600 مقال فذاع صيتها وعلا شأنها كونها جمعت الحس المهني والفكر العلمي والبعد الاجتماعي والوعي الاقتصادي في صياغة المقال الرصين، ولاهتمامها الكبير بعلم الاجتماع ركزت على فلسفة مؤسس علم الاجتماع الحديث (أوجست كونت) خاصة في وجهات نظره المعاصرة نشرت كتابين في عام 1853 حول أفكاره واتجاهاته السوسيولوجية. وترجمة بعض أعماله لتصبح أول امرأة عالمة اجتماع.
في عام 1857 عانت (هارييت) من تدهور صحتها بعد إصابتها بمرض القلب ولكنها تمكنت من تجاوز أزمتها الصحية بعد أن ظلت فترة طويلة في المنزل فألفت كتابا بعنوان: (الحياة في غرفة المرض)..!! وعاشت أكثر من 18 سنة وبعد بلوغها 74 سنة أصيبت بالتهاب الشعب الهوائية وتحديدا عام 1876 أدت إلى تأزم حالتها المرضية، ووفاتها في منزلها في بريطانيا بعد سيرة إعلامية وعلمية توجتها بالفوز بالعديد من الجوائز عن كتاباتها الرئيسية في علم الاجتماع، فضلاً عن إنتاجها العلمي في تأليف أكثر من عشرين كتابا خلال العصر الفيكتوري عن بناء المجتمع ووظائفه الاجتماعية والاقتصادية والسياسة والقانونية بعد أن سبقت أعمالها أعمال العالم الاجتماعي الفرنسي إيميل دوركهايم والعالم الألماني ماكس فيبر لتصنف من أوائل علماء الاجتماع النسوي.