جلست أمام مكتبها على ذلك الكرسي الفاخر العتيق، هي عادة زوجها في اقتناء الأشياء، يبحث عن الفاخر المستعمل؛ ليجمع بين النقيضين: علو القيمة، ورخص الثمن.
«لا تدرين، ربما كان كرسي وزير أو مسؤول كبير»، هذا ما قاله لها عندما أبدت امتعاضاً من استخدام كرسي مستعمل.
جلست وعادت برأسها المثقل لتسنده على مسند ذلك الكرسي، فأصدر الكرسي صريراً عجيباً، اتصل بصرير أفكارها المزدحمة في رأسها، وانتقل إلى الضوضاء في شغاف قلبها، ثم انتقل إلى ذلك المكان، حيث «لم يبلغ شراب ولا فرح ولم يبلغ سرور».
في ذلك المكان رأت بابًا ضخمًا كالسور، من تلك الأبواب التي يكون معظمها ثابتاً، وجزءاً صغيراً منها فقط الذي يُفتح، باب خشبي، منقوش وملون بألوان بعضها أبهتته الشمس.
كان الوقت ليلاً، وكان الباب نصف مفتوح، بل ربع مفتوح، حاولت أن تفتحه أكثر فلم تستطع، حاولت أن تنفذ منه فلم تستطع، استطاعت فقط أن تطل منه إلى ما خلفه. فرأت طفلةً صغيرة، لم تر ملامحها، لأنها كانت تدس رأسها بين ركبتيها، رأت رأسها وشعرها، وتعجبت: كيف لطفلة في عمرها أن تكون لشعرها هذه الكثافة؟
ماذا تفعل؟ أتراها تبكي؟
مدت يدها إليها، ولمست يدها، فرفعت الطفلة رأسها، ونظرت إليها، عيناها في عينيها، فأحست هي -وليس الطفلة - بشعور لم تُخلق في اللغة كلمات لوصفه، أصابتها قشعريرة لذيذة، وشعرت بشعور لم تعطها إياه أية تجربة من تجارب الدنيا بعد.
-»أنتِ هنا وولدك يبكي باحثًا عنك، طفل واحد وأنتِ عاجزة عن رعايته».
استفاقت من لحظتها، لم يدرِ زوجها من أية جنة انتزعها.
ظلت بعد ذلك كلما سنحت لها فرصة تسند رأسها على ذلك الكرسي، تهزه حتى يصر، لكن الصرير لم ينتقل إلى تلك المسارات التي انتقل إليها سابقاً، وكأنه عود ثقاب لا يشتعل إلا مرة واحدة فقط.
بعد سنين وسنين وسنين دخلت إلى تلك الغرفة، فلم تجد الكرسي! صرخت في غضب: أين الكرسي؟ من أخذه؟
رد ولدها: أنا أخرجته واشتريت لك كرسياً أفضل.
- ومن طلب منك ذلك؟
- أنا خشيت عليك أن تسقطي منه، إنه كرسي قديم.
- أحضره الآن، أريد كرسي القديم.
- لا أدري أين هو، تخلصت منه، ولا أدري أين هو الآن.
- لا تدري!
قالتها بصوت خافت، وقد تحول غضبها إلى حزن عميق، ثم جلست على الأرض ووضعت رأسها بين ركبتيها.
نظر إليها ولدها بشفقة، ثم بتعجب وهو يقول في نفسه: كيف لامرأة في عمر أمي أن تكون لشعرها هذه الكثافة؟!
** **
- عبير الطلحي