د.محمد بن عبدالرحمن البشر
قبل بضعة عقود مضت كانت الإمبراطورية البريطانية العظمى تسود ثلث العالم تقريبًا، وكان لها اليد الطول في كل ما يجري في العالم من الناحية الاقتصادية والسياسية والثقافية أيضاً، وكانت تدرس خطواتها بعناية فائقة مستخدمة ما لديها من إمكانيات في البر، وأيضًا في البحر، الذي كانت سيدته الأولى. لكن كما هو معلوم فإن الأمور لا تدوم على حال، وقد تتغير الظروف بما لا يخطر على بال، ولابد لكل فارس أن يترجل مهما كانت قوته، وعزيمته وعظمته، وسنة الحياة لا يمكن تغييرها، مهما حاول الإنسان أن يفعل ذلك، وهذه سنة الحياة منذ بدء الخليقة حتى زماننا هذا، ولا شك أن ذلك سيستمر في الأزمنة القادمة. يقول الشاعر:
وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها
مُتَطَّلِب في الماءِ جَذوة نارِ
نعم فقدت سيطرتها المطلقة، لكنها بقية مؤثرة ضمن مجموعة من الدول، ومنها ما هو أكثر تأثيراً منها سواء حليفًا مثل الولايات المتحدة، أو غير حليف مثل الصين وروسيا، ومنها ما هو مماثل لها، والكثير أقل منها. وأيضاً هناك دول استقلت، لكن بقية تابعة للتاج البريطاني بصورة رمزية، ولهذا ليس بها رئيس مثل كندا، وأستراليا، كما أن هناك جزرًا بعيدة عن أرض بريطانيا الأم آلاف الكيلومترات لكنها تتبع المملكة البريطانية مثل جزر فوكلاند، والتي قام نزاع قبل أكثر من أربعة عقود بينها وبين الأرجنتين القريبة منها جداً والتي تدعي ملكيتها، لكن رئيسة وزراء بريطانيا في ذلك الوقت المرأة الحديدية السيدة تاتشر التي أعلنت الحرب وبقية الجزيرة بريطانية.
ومنذ زمن السيدة تاتشر والتي انضمت بريطانيا في زمنها إلى الاتحاد الأوربي، وكانت من أطول رؤساء الوزراء مدة حكم، وسقطت بخلاف داخل حزبها، تعاقب على رئاسة الوزراء عدد من الحزبين العمال والمحافظين، وكلنا يعلم أنهما الأكثر شعبية، وكان حظ المحافظين هو الأوفر، والسيد بلير الأطول مدة بعد السيدة تاتشر.
في الفترة الأخيرة وفي غضون خمس سنوات تقريباً وقعت أحداث يجدر الحديث عنها، فقد أخذ أحد أجنحة حزب المحافظين الذي طال أمد حكمه في الترويج للخروج من الاتحاد الأوربي، منطلقاً من كون بريطانيا تحمل تاريخاً مميزاً، وأن لديها إمكانات وقدرات تختلف عن بقية دول المجموعة، وأن العمالة الرخيصة القادمة من شرق أوروبا حدت من حصول الإنجليز على وظائف، وبذلك زادت البطالة، كما ذكروا أن القوانين الأوروبية قد حدت من حرية الحكومة البريطانية في اتخاذ القرارات التي تراها مناسبة للشعب البريطاني، كما أنها أدت إلى التنازل عن بعض القناعات والمصالح في سبيل مصلحة المجموعة ككل، وكان للنظام القضائي نصيب الأسد الذي يرونه إرثاً يجب الحفاظ عليه، وعدم تركه يندثر تحت مظلة الاتحاد الأوربي، كما تحدثوا عن المواقف السياسية العالمية، وتكبيل أيدي الساسة البريطانيين من قبل الاتحاد الأوربي، وجعلها تنحى منحاً لا يتوافق مع رؤيتها الأنجلو سكسونية، وعلاقتها المتأصلة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولا ننسى موقف الرئيس الأمريكي آنذاك ترامب الذي كان يحث البريطانيين على الخروج، وبناء علاقة استثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
كان يحمل راية الخروج رجلان من حزب المحافظين هما العضو فاراج، والعضو الآخر جونسون الذي أصبح في ما بعد رئيسًا للوزراء في بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وكان للرجلين رؤية مختلفة، فنجد أن فاراج يريد أن يكون الخروج من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، بينما كان جونسون يفضل الوصول إلى اتفاق حتى لا يكون هناك عوائق في ما بعد، وفي تلك الفترة كان رئيس الوزراء السيد كاميرون واثقًا كل الثقة أنه لو حدث استفتاء فإن الشعب البريطاني بلا جدال سوف يصوت للبقاء، وعندما أخذ الضغط يزيد عليه داخل هذا الجناح في الحزب وخارجه، رأى أن يقطع دابر هذا الجدل وقبول مبدأ الاستفتاء مع قناعته المسبقة أنه سوف يكون في صالح البقاء، رغم أن القانون يتيح له رفض الطلب ومن ثم البقاء دون عناء.
تم الاستفتاء وصوت الشعب بنسبة بسيطة جداً للخروج، واستقال كاميرون، وانهار الجنيه، وتصارع فاراج الذي يريد الخروج دون اتفاق مع جونسون، وخرج من الحزب وشكل حزباً جديداً لم يكن له مؤيدين كثر، فازت تريزا مي بالانتخابات وأصبحت رئيسة الوزراء وأصبح جونسون وزيراً للخارجية، وبدأت مفاوضات مضنية مع الجانب الأوروبي للخروج باتفاقية مناسبة، وطال الجدل داخل مجلس العموم، وفي نهاية الأمر تم الاتفاق وخرجت بريطانيا من المجموعة، وسقطت تريزا مي وأصبح جونسون رئيسًا للوزراء، وحلت كورونا وضربت اقتصاد العالم ومن ضمنه بريطانيا العظمى، وأعلن جونسون مبدأ مناعة القطيع بعد امتلاء المستشفيات، لكنه تراجع بعد زيادة الوفيات، وكان وزير المالية آنذاك شاب هندي الأصل ثري متعلم مؤيد للخروج، واسمه ريشي سوناك، استطاع توفير القدر الكافي من المال لمعظم طبقات الشعب، سقط جونسون بسبب بعض التصرفات الشخصية، وفازت ليز ترس، التي كانت وزيرة للخارجية، لكن حزبها أسقطها بعد أربعة وأربعين يوماً بسبب أخطاء مرتكبة، ودخل سوناك مرة أخرى للمنافسة، وأراد جونسون العودة لكنه وجد نفسه غير قادر على المنافسة، ولم يبق منافسًا للوزير سوناك سوى السيدة بريتي التي لم تحصل على المائة صوت اللازمة للمنافسة، وفاز السيد سوناك بالتزكية من أعضاء مجلس العموم المحافظين، أي أنه لم ينتخب من الشعب أو الحزب، وسيقود المشهد فيما يبدو لمدة سنتين، موعد الانتخابات العامة.