سهوب بغدادي
لطالما قيل لي إنني غريبة الأطوار أو عفوية بشكل غير معهود، وعلى الأغلب أتلقى تلك الأوصاف عندما أعبر عمَّا في داخلي دون تردد في ذات اللحظة، أو عندما أباشر الحديث مع الغرباء في أي مكان وزمان، لم أكن أعلم هل هي ميزة أم عيب، فأغلب الظن أن يتعرض الإنسان لمواقف وأشخاص تثنيه عن فعلته، ولكنني يوماً بعد يوم، أجد أن المواقف والأشخاص الناتجة عن تلك (السمة الغريبة) تثريني داخليًا وتهديني تجارب استثنائية، فما قوة الاحتمالات التي تجعل من شخص عابر من منطقة مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بحي المربع يلتقي بشخص استثنائي، بل قامة في مجاله، قد تظن أن النسبة ضئيلة، ولكن ذلك لم يحدث معي، حيث هرعت يوم الاثنين خلال الأسبوع الجاري إلى مكتبة الملك عبدالعزيز بعد انتهائي من دوامي، فكلفني المشوار ما يزيد على ساعة وربع أو أكثر مع تخبط برنامج الخرائط، من ثم وصلت لأدخل المكتبة البهية وأتنفس الصعداء، ما لبثت أن انتهي من تلك الشهقة حتى باغتني أمين المكتبة «عفوًا أختي، هنا قسم الرجال، اذهبي إلى قسم النساء من الناحية الأخرى من المبنى» فتعجبت وأمطر الرجل المسكين بوابل من الأسئلة والتذمر-بالتأكيد لقد شددت الرحال إلى هنا وكانت المسيرة شاقة- من ثم استسلمت ولكنني التقطت مجموعة من الكتيبات والمجلات الثقافية من المدخل لأشعر نفسي بلذة الانتصار! عندما اتجهت إلى القسم النسائي وجدت العديد من باحثات الدراسات العليا بين الأرفف، واكتسين بحلة الوقار الثقافي، من هنا كان عزائي بهذا القسم النسائي أن «نأخذ راحتنا» لساعات طويلة أثناء عملية المذاكرة والبحث، خرجت من المكتبة لأجلس على المقعد الخشبي وأتأمل القطط والمنطقة الساكنة ليلاً، لأجد امرأة بديعة اللباس والطلة، فلم أتمالك نفسي بالتأكيد وألقيت عليها التحية فردتها بأحسن منها، وبدأنا الحديث المطويل عن المملكة، لقد كانت تلك المرأة الكاتبة الصحافية المشهورة باربرا شوماخر صاحبة كتاب «المملكة العربية السعودية رؤية وتحول»، حيث تمتلك في أرشيفها أكثر من 100 مقالة خصصتها عن المملكة العربية السعودية بجغرافيتها المتنوعة وشعبها، وتراثها، عندما علمت باربرا أنني كاتبة، قالت لي هناك مواضيع قد تخدمك في كتاباتك كالبيئة وغيرها من الملفات البارزة، فلم تبخل علي بخبرتها الممتدة، وحكت لي عن مغامراتها وتجاربها الممتعة خلال 30 عاماً في السعودية، تقول باربرا عندما سألتها عن مكانها المفضل في المملكةإنه من الصعب أن أختار أو أحدد مكانًا بعينه نظرًا لتنوع الجغرافيا وماهيتها وتكوينها وخصائص الأماكن ومن فيها، ولكنها أشارت إلى مكان في تبوك يدعى وادي الديسة، وصفته بالجنة لانعكاس صورة النخيل الأخضر على المياه الصافية وسط الصخور التي نقش عليها من آلاف السنين، حيث اجتمع جمال الطبيعة مع عراقة التاريخ في آن واحد، إذ عبرت باربرا عن امتنانها لتمكنها من زيارة السعودية باستمرار على مدار العام، وعلى هامش الحوار الذي دار بيننا، تطرقنا للصورة النمطية المغلوطة عن المملكة وشعبها، فأكدت أن زيارة واحدة للسعودية كفيلة بأن تغير الكثير من تلك المفاهيم، على سبيل المثال، كان هناك عدد من الصحافيين الأوروبيين ممن يمتلكون نظرة سلبية عن المملكة باعتبار المواد الرائجة عنها على مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة ووسائل الإعلام المرئي، وفي عام 2019 تمت دعوة عدد منهم إلى مؤتمر إعلامي في مدينة الرياض، فكانت الدهشة سيدة الموقف، حيث تغيرت تلك المفاهيم عند لقاء أهل البلد-فكانوا يتحدثون الإنجليزية وقادرين على التخاطب الفعَّال ومتعلمين- أيضاً لم تكن السعودية من الداخل عبارة عن صحراء قاحلة كما تم تصويرها، حقًا، قد تكون هذه المؤتمرات كثيرة ورائجة هذه الفترة، وتتصاحب بالزحام وإغلاق الطرقات، ولكنها تترك أثرًا إيجابياً في عقول وقلوب العالم، إنها فرصة حقيقية لعكس صورة حقة عن الكرم والثقافة وكل ما في الوطن، الخلاصة، سأبقى غريبة أطوار.