أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
من الدول في تاريخنا الإسلامي بعد الشتات التي يصدق عليها قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتي منصورة)، الدولة التي حملت التتار على أكتافها حسب تعبير الشيخ مرعي الحنبلي- رحمه الله-.. وهي الدولة التي لَمَّ شمل شعبها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-؛ فخرج حسام الدين عيسى ابن مهنا يقود العرب من الميمنة، وكان المسلمون على وشك الانكسار فلم يقم للتتار قائمة بعدها.. ومن تلك الدول بعد الشتات دولة آل أجود العقيلية العامرية بالأحساء التي هاج عليها البرتغاليون وناصرهم عدو لنا في النحلة يدعى أنه صديقنا في الملة.. ومن تلك الدول الحكومة السعودية، وهي مُلكُ رحمة؛ لأنها لم تقم على أنقاض دولة مسلمة واحدة طمعاً في السلطة.. وإنما أوجدت من الفراغ - بإذن الله - دولة واحدة، وأمة واحدة، ودستوراً واحداً رضيته الأمة وجعلته أساس البيعة التي نصها التعاقد على كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-؛ فكانت رقعة المملكة الآن دار أول دولة إسلامية تحكم حكماً مباشراً بشريعة الإسلام؛ فانتهت التجزئة البلدانية والعشائرية.. ووجدت قلة تنتسب معنا إلى القِبْلة وتخالفنا في النحلة، فأُبْقيتْ على حريتها المذهبية في أوج الجهاد من أجل هذه الوحدة، وكان ذلك لرعاية القادة العظام وكبار العلماء الحائلين دون أية تجاوز يحدثه الجهل والأمية والعامية المتفشية.. ونحن نعلم أن هذه المملكة: إما دويلات متصارعة في المخلاف السليماني والحجاز، وإما دويلات متقطعة في الأحساء لم تستقم بسلفيتها إلا في عهد آل أجود.. أما المنطقة الوسطى فكانت مهملة من قبل الحكومات الإسلامية، وكان والي اليمامة من قبل تلك الحكومات ينزل في سواد الكوفة من أجل أن يجبي خراجها دون أن يحكمها حكماً مباشراً.. هذه قصة التاريخ الإسلامي في مثاليته منذ العصور الوسطى في عرف تواريخ الخواجات، وأما ما قبل العصور الوسطى بذلك العرف فهو تاريخ محمد- صلى الله عليه وسلم- وتاريخ مدرسته من الصحابة رضوان الله عليهم وتابعيهم وتابعي تابعيهم، وهكذا خلال القرون الممدوحة.. إلا أن كُتَّاب الثقوب المتآمرين على تاريخنا الإسلامي باسم إعادة كتابة التاريخ نشطوا نشاطاً غير عادي يلحظه المسلم الغيور فيعصر قلبه الألم، أما أمثال خالد بن حمد فهم في معزل عن هذا الهم؛ بل يحملون بعض العبء في تجميع ركام ذلك الهم بهجائهم للعصور الوسطى التي يختلف وضعها المنير في الشرق عن وضعها امظلم في الغرب.. وأكبر جادٍّ في هذا التخريب التاريخي خليل عبد الكريم ولا سيما في أجزائه الأربعة عن الصحابة رضوان الله عليهم، وقد سماه تسمية منتنة هي (شدو الربابة).. وأنتن من ذلك كله كتاب الدكتور نضال عبد القادر الصالح بعنوان (هموم مسلم / التفكير بدلاً من التكفير) صدر عن دار الطليعة في بيروت؛ فالخلافة الراشدة عنده مجرد قداسة سلفية؛ ولهذا يطرح السؤال: هل كانت إسلامية أم ملكاً وسلطاناً، وهل كانت راشدة أم لا؟.. ولكي يصل إلى هذا الهوس يطرح الأحاديث الصحيحة ومنها المتواتر للنقاش كما يطرح أيَّ خبر في البخلاء للجاحظ أو الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني متناسياً أن طرق التوثيق التاريخي رواية ودراية هي المصاحبة لعلم الرواية عندما كانت مشافهة وعندما كانت تدويناً، وأنها تبلورت إلى فنٍّ اسمه مصطلح الحديث، وتبلور جزء منه يتعلق بالدراية في فن أصول الفقه عن طرق الترجيح، وعن علم الدلالة المقتسم بين علمي أصول الفقه وأصول اللغة.. وبعد فإن هذا المنهج التوثيقي لم تنله إلى هذه اللحظة بادرة فكرية تضعفه، بل أُعجب به الغربيون؛ بل رأوا في بعض طرق التوثيق منهجاً بنَّاءً لممارسة العلم التجريبي من الملاحظة والفرض إلى النتيجة.. وعلى مبدأ ((إيضاح الواضحات من المشكلات الفاضحات)): أبدي العناصر التالية:
أولاً: أنه بالبرهان العلمي آمنا بالله وبرسالته، وبأن الإسلام خاتمة الأديان؛ لأن القرآن مصدق لما بين يديه من الكتب الربانية قبل أن يدخلها الوشب.
ثانياً: أن الله ضِمْنَ النص الشرعي: حفِظ الدين وظهوره وظهور دولته.
ثالثاً: أن وعد الله حق لا خُلْفَ فيه، ووجدنا أن حفظ الدين، ونشره، وقيام دولته: لم يتم إلا بهؤلاء الأخيار منذ الخلفاء الراشدين إلى أن توقفت الفتوح، واستقرت الرقعة من أهل القرون الممدوحة، وممن سار على سنتهم.
رابعاً: لا يتم هذا الأمر بالبداهة إلا على يد مَنْ هم المثال والقدوة ورعاً وإيماناً وشجاعةً وإخلاصاً في العبودية لله.
خامساً: إنما كان العرب بالمفهوم العرقي الذي استقر منذ كتب العهد القديم والتوراة - وهم قحطان وعدنان - محصورين في جنوب الجزيرة وغربها وفي سواحلها الشرقية، وكان وسطها منتجَعاً حسب الخصب.. وكانت أمة العرب محكومة من الروم والفرس بعمالة إمارتين عربيتين هما الغساسنة والمناذرة، وهم لا يحملون هم أمة، وإنما هو تمزق عشائري وتناحر، وليسوا أهل كتاب؛ فتحولوا إلى أمةٍ ودولة ذات كتاب وعلم متوارث، وخرجوا من الزاوية الضيقة إلى أن بلغوا المحيط غرباً وجنوب أوربا شمالاً وبلاد الصين شرقاً.. وأهل معظم هذه الآفاق يحمل طابع الهُوية العربية لغة وديانة؛ فكيف يحق لأي رقيع بعد هذا أن يشكك في هذا السلف ذي التاريخ الجهوري؟!: وإلى مزيد من هذا الكث والبث، وإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -