حسن اليمني
من كان يصدق أن الولايات المتحدة الأمريكية تلك الدولة العظمى والأولى في العالم التي حين تغضب يغضب العالم كله، وحين تتحدث عن النظام العالمي وعن الشرعية الدولية وعن العالم المتحضر الكل ينساق ويردد كالصدى ما تقوله أمريكا، فما الذي حدث وجعل الموقف الأمريكي شُبه معزول عن التفاعل حول العالم، بما في ذلك أقرب الحلفاء؟
من تابع الأحداث السياسية في الأيام الأخيرة بعد قرار منظمة أوبك بلس بتخفيض الإنتاج مليوني برميل نفط، ورد الفعل الأمريكي الذي ربما كان متوقعاً نتيجة مصالح حزبية داخلية لكن التوقع لم يكن إلى هذا الحد من الاندفاع الهجومي غير المنضبط وتخصيص جام الغضب على دولة بذاتها من بين أعضاء تلك المنظمة، لقد جرى الأمر بطريقة مريبة ومثيرة لعلو صوت الاستفزاز، ولم يكن الأمر جيداً حين ظهرت ادعاءات وإذاعة شعارات ومزايدات بين أعضاء في الكونغرس الأمريكي وخاصة من الحزب الديمقراطي بطريقة مستفزة تمارس الكِبَر والغرور ضد دولة ليست صديقة فقط بل حليفة، والجميل هذه المرة ولعله تسرب بخفية للذهن الأمريكي حين لم تجد صدى يدعم ويؤيد من دول اعتادت الرقص على عزف موسيقى سياساتها غير المنطقية أحياناً، ولا حتى دولة واحدة حتى تلمح ولو بشكل منافق دعم هذا الموقف الأمريكي، أمريكا فقط وجدت نفسها وحدها وهي ترفع صوتها وترخي مسامعها علّ تسمع صدى يدعم ويسند موقفها لكن دون جدوى، بما في ذلك الكيان الصهيوني قط أمريكا في المنطقة، لا بل إن الأمر حدث بشكل معاكس حين وقف العالم كله متحداً بين رافض ومعلن ذلك صراحة وبأعلى صوت، وبين لائم ومعاتب وناصح للتعقل، في حين نأى واكتفى البعض بالصمت المطبق كحال المملكة المتحدة البريطانية وكندا وهما أقرب الحلفاء للولايات المتحدة الأمريكية بذات الدرجة فعلاً التي تجمع العربية السعودية في عمق صداقتها مع أمريكا.
حتى إن استبعدنا تلك الدول التي تقف في العادة وبحكم تعارض السياسة والاتجاه أو التي لا ترتهن للقرار الأمريكي واختبرنا فقط مواقف دول أوروبا الصديقة والحليفة لأمريكا أو حلف الناتو نجد رفضاً للموقف الأمريكي وتجنب الانخراط معه، بل أعلن كثير منهم صراحةً رفض رد الفعل الأمريكي تجاه قرار أوبك بلس الأخير بالصمت مثل بريطانيا وكندا وأستراليا وألمانيا وإيطاليا وغيرها، أو بمحاولات التوسط لتهدئة الغضب الأمريكي بالتعقل والتراجع عن تسخين الجبهة الإعلامية غير المنطقي مثل فرنسا، بينما ظهر الموقف التركي عضو حلف الناتو أكثر أثراً بوقعه على واشنطن، وهذا كله يشير إلى عزلة في الموقف الأمريكي لم يسبق أن حدث من قبل.
جميع دول أوبك أعلنت تضامنها مع الرياض موضحة أن قرار أوبك بلس ليس حكراً على السعودية وحدها، وزادت في عملية التفنيد إن القرار تم في إطار اقتصادي بحت لا علاقة له بسياسة أو أحداث عسكرية جارية، الدول العربية والخليجية هي الأخرى أجمعت على دعم وإسناد المملكة العربية السعودية في مواجهة حملات الأعلام الأمريكي، وأعلنت جمهورية مصر العربية أنها تراقب عن كثب، وظهر شاويش أوغلو وزير الخارجية التركي بتصريح قوي ومهم جداً من حيث ظهور مصطلح سياسي جديد يظهر لأول مرة في العناوين السياسية يطال الولايات المتحدة الأمريكية، حين أطلق وصف (تنمر القوة) للفعل الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية في كل مرة حتى وصل اليوم لأقرب الأصدقاء والحلفاء لأمريكا ذاتها وهي المملكة العربية السعودية، مصطلح جديد مختلف يحمل في مخازنه أبعاداً استدعت الرئيس الأمريكي أن يطلب إعادة ترجمته وتدقيق لغته والتأكد من فحواه وقراءة مغزاه وأبعاده، باعتباره توصيفاً صادماً لعقلية المعاقبة التي أصبحت تتجاوز الدول المناكفة لسياساتها وتصل اليوم إلى الأصدقاء والحلفاء، يستحسن الآن بمناسبة الإشارة لعقلية العقوبات التي تمارسها الولايات المتحدة بشكل أصبح مبالغاً فيه أن نذكر أن العقوبات الأمريكية التي اتخذت ضد روسيا تجاوزت اليوم عشرة آلاف عقوبة، تصور ذلك لتعرف مدى الانجراف الهائل في التعامل مع الآخرين، إنه مؤشر منطقي للإسراف في استخدام العقوبات بشكل مبالغ فيه الأمر الذي أصبح فيه مستحقاً للوصف «تنمر القوة» وهو فعلاً وصف مناسب جداً لحال هذا السعار غير المبرر، هو فعلاً أصبح بمثابة غطرسة قوة فوق المعقول والذي يأخذ الولايات المتحدة الأمريكية سيراً على قدميها لتصبح دولة معزولة، بهذا المنظار تبدو الولايات المتحدة الأمريكية على خلاف مع دول أوروبا بشأن عقوباتها على روسيا وخاصة في مجال الطاقة، وهي على خلاف مع دول صديقة وحليفة حتى، وعالمياً هي تحارب روسيا بحياة الإنسان الأوكراني مستخدمة إياه كحشو رصاص، وتايوان أيضاً مرشحة لذات الدور ضد الصين خلال الأشهر القادمة، ويخشى على باكستان من مخطط قد تظهر ملامحه في وقت قريب، خاصة بعد أن نالت من بايدن ذاته وصف أخطر دولة نووية في العالم وكأنه يمهد لأمر ما.
إن جمال وقوة الحضارة المادية للولايات المتحدة الأمريكية عامل جذب لكثير من دول وشعوب العالم، وخاصة دول الخليج العربي التي انسجمت وتناسقت مع المسار الأمريكي، حتى مع تبلّد الروح الحضرية الأمريكية تجاه فلسطين مثلاً، لكن ليس إلى حد تحمل التنمر وإسراف العقوبات ووصولها لأقرب الأصدقاء والحلفاء بحجّة أن ممارسة القرار السيادي ومراعاة المصالح الاقتصادية لأي دولة لا يجوز أن يقدم على مصالح حزب أمريكي، هذا كثير وأمر يتجاوز العلاقات الطبيعية، إن ظهور هذا الوصف أي «تنمر القوة» يستدعي العقلاء في الولايات المتحدة الأمريكية لمراجعة ذاتية تعطي الأصدقاء والحلفاء حق استقلال الإرادة والسيادة وحماية المصالح بدل من محاولة استلابها والهيمنة عليها.
لم يعد سراً أو لغزاً ترجمة ما يجري من أحداث في العالم اليوم، فالغاية والهدف أصبح ظاهراً وواضحاً وهو الخروج من نظام القطب الأوحد إلى عالم متعدد الأقطاب، وهذا يشترط تغيير النظام العالمي الحاكم والمسيطر على العالم منذ تدمير أفغانستان والعراق 2001م و2003م، ومن يتمعن بعمق في حركة التطور الطبيعي للأمم والدول سيرى أن العالم حقاً أصبح بحاجة ماسّة لنظام عالمي أكثر عدلاً وإنصافاً، فقد سقطت النظريات الفلسفية كالشيوعية والماركسية أمام قوة وتغوّل النظريات المادية والإلحادية التي تمادت بشكل سريع خلال عقدين أو ثلاثة من الزمن لتصل إلى تشريع هدم القيم الإنسانية والأخلاقية من خلال المثلية وحق الإجهاض وتفكيك الأسر وتذويب ما تبقى من قيم مشتركة بين الأمم بالعرف الأخلاقي للإنسان, الأمر الذي ساعد في تقريب المفاهيم بين الأديان في جانبه الآخر حتى رأينا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستشهد بآيات من القرآن الكريم وبعض تعاليم الدين الإسلامي من رؤية مسيحية أرثوذكسية في مواجهة الاندفاعة الهائلة للتحلل الأخلاقي في الصهيونية البروتستانتية ذات اليسار الليبرالي الذي تتزعمه أمريكا تحت حكم الحزب الديمقراطي، كما أن سياسات الهيمنة والسيطرة تحولت إلى إمبريالية غير مقبولة لدول تسعى للنهوض والاستفادة من معطيات العصر لتدعيم قواها الذاتية في الاقتصاد والصناعة المدنية والعسكرية والتقنية، أضف إلى ذلك حال الاقتصاد العالمي المعتمد على الدولار المستخدم كأداة عقاب ترفع بين حين وآخر، كل هذا وذاك مجتمعاً استدعى العالم إلى البحث عن إعادة تصحيح النظام العالمي وإعادة توازنه قدر الإمكان ما أدخل العالم كله تحت خطر حرب عالمية ثالثة ولا يظهر حتى الآن أي احتمال أو بوادر ارتداد للخلف بل الأوضح والأظهر إن التحدي يستعر بشكل تحركت فيه مواقع الأسلحة النووية وتهيأت للاستعداد في صورة مرعبة ولا يمنع الاعتقاد بعدم جديتها احتمال تفجرها بلحظة غير متوقعة من قوى متنمرة غير مستعدة لرؤية العالم بنظرة أوسع من مطامحها الأنانية.