د. منصور المالك
هناك أحداث تلصق بذاكرتنا ولا ننساها خاصة من أيام طفولتنا. أتذكر عندما كنت في السنة الثانية ابتدائي وكانت مدرستنا عبارة عن عمارة توجد الفصول في الدورين الأول والثاني وكان السطح هو ملعب كرة القدم. في ذلك اليوم الذي لا أنساه وأثناء الحصة قبل الأخيرة يدخل فجأة والدي إلى فصلنا ومعه مدير المدرسة. كان والدي -حفظه الله وأطال في عمره - يعمل في وزارة المعارف وهو أحد رجالات التعليم الأوائل وكانت زيارته لنا زيارة تعليمية تفقدية.
كطفل صغير نسيت المدرس وعصاه والمدير وهيبته وقفزت من مقعدي باتجاه والدي. قبلني والدي ووقفت بجانبه وقفة الفخر والاعتزاز فأنا من مثلي الآن هذا والدي وهذا المدير وأنا بينهم.
بعد انتهاء زيارة والدي للمدرسة ومرافقها البسيطة ولقائه مع المدير وبعض المدرسين جاء ليأخذني للذهاب للبيت. استمررت أمشي بجانبه ممسكاً بيده وشعور الفخر وربما الغرور يملأ رأسي وأنا أحاول أن أتأكد أن كل زملائي الطلاب يشاهدونني مع والدي ونحن نمر أمام الفصول يغمرني شعور الطفل السعيد بزيارة والده.
اقتربنا من الدرج وأنا مشغول بالتلفت وأحمل حقيبتي المدرسية وبدون أن أنتبه تعرقلت في الدرجة الأولى ولحسن الحظ تنقذني يد والدي من السقوط أمسكت بيد والدي بقوة لحفظ توازني حتى الدرجة الأخيرة. ركبنا السيارة وغادرنا المدرسة وكان ذلك يوماً مهماً في طفولتي استمر تأثيره لأيام عديدة في المدرسة ومع أساتذتي المدرسين وزملائي الطلاب.
يد والدي التي أنقذتني من السقوط على الدرج ظلت هي ذات اليد الكريمة التي تحفظني وترشدني وتمدني بالعطف والحب والحنان. ولست أنا وأسرته وأقاربه فقط، بل أعطت يده الكريمة العون والخير للعديد من أصدقائه ومحبيه وقدمت المساعدات ولا تزال للمساكين والمحتاجين والجمعيات الخيرية.
كرم يد والدي كانت مرآة لصفاء نفسه وسمو أخلاقه فقد ظل محباً للجميع محباً لإخوانه ولأفراد أسرته يسأل عن كل واحد لو غاب يوماً عن عينيه ويتطمن على أحوالهم.
يد والدي امتدت في العطاء إلى كافة مناحي الحياة، فقد كانت مصدراً للإبداع في الأدب العربي وكان والدي مرجعاً في مختلف علوم اللغة العربية وبحكم تخصصه فقد ألف وراجع وصحح الكثير من مناهج اللغة العربية كما خطت يده الكريمة عشرات القصائد الوطنية والعروبية.
يشاء ربي أن يتكرَّم علينا بطول عمر الوالد وأتشرّف مرة أخرى بالمشي إلى جانبه، لكن الآن هو والدي الذي يمسك بيدي وهو يمشي لحفظ توازنه. ولا أقول هو دين على ظهري، بل هو واجب وشرف لا يماثله شرف نلته مع إخواني وأخواتي في خدمة والدينا.
لا توجد متعة أكبر من خدمة والديك ولا بركة أكثر من بركة تقبيل جبينهما. هما الخير والأمان وهما السعادة والرضا.
قبل والديك ما استطعت... فسيأتي يوم... لا تستطيع.