فيصل بن أحمد الشميري
يستحوذ مُصطلح التغير المَناخي في الآونة الأخيرة بشكل مُطرد على اهتمام محلي ودولي كبير، وأصبح يؤرق الجميع بلا استثناء، وخاصة المُهتمين بالبيئة والمناخ والزراعة والغذاء والماء، فلم يعد التغير بمفهومه المُتعارف في التحول البيئي من حالة إلى حالة أخرى بشكل مُفاجئ مما ترتب عليه مخاطر على مدى زمنى يصعب التكهن بمداه، والمتمثل في ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض مُعدل هطول الأمطار والاحتباس الحراري والجفاف والتصحر والفيضانات...إلخ، فلقد أصبح يشكل خطراً على الأمن الغذائي والمائي العالمي، وبالتالي على حياة البشرية والكائنات الحيّة بوجه العُموم.
تطورت البشرية بتطور وسائل الصناعة والنقل والإنتاج والطاقة، فشكلت عبئاً ثقيلاً على النظم البيئية، في زيادة إنتاج الغازات الدفيئة، وقطع الأشجار وتلاشي الغابات وتناقص الرقعة الزراعية، والمساحات الخضراء، فتغير النظام الإيكولوجي، عبر عقود من الجهل تارة ومن اللامبالاة تارة أخرى، فأصبح تأثيره يزداد يوماً بعد يوم بشكل أسرع، وعندما اقترب الخطر سريعاً من الغذاء والماء أصبح التغير المَناخي أرقا يُهدد الجميع.
إن الكون برمته يمشي على إيقاع مُنتظم مُترتب مُتجانس مُتناسق بشكل لا يتخيله العقل البشري، لكن عندما ينحرف فلا أحد يستطيع إيقافه وإيقاف انحرافه، بسبب السلوكيات الشاذة والمنحرفة التي طغت على عصرنا الراهن، وأهمها الإسراف والتبذير واستهلاك الكثير دون الحاجة إليه.
كان فيما مضى حبةُ القمح أو الشعير أو الذرة أو الأرز لها قيمتها، وقطرة الماء لها ثمنها، والشجرة كنز، والأرض عِرض، واستمر الناس على هذا المنوال في الحفاظ عليها، فكانت البيئة حينها مُزدهرة مُستقرة مُتنامية، ولكن عندما أصبحت قاطرات القمح والذرة تُرمى للبحار، للحفاظ على سعرها، وإهدار آلاف اللترات لغسيل السيارة، والتبذير والمبالغة في استهلاك الغذاء، زادت احتياجات البشرية، فانحرفت البوصلة البيئية، فتغير المناخ والواقع من حولنا.
ولن يقتصر تأثير التغير المناخي على عصرنا الحالي بل على الأجيال المتلاحقة من بعدنا، فأي إرث سنتركه لهم، حروبٌ ودمار وأسلحة دمار شامل، وجفاف، غابات مُدمرة، وأراض مُتصحرة، ومصانع لا تتقيد بالشروط البيئية، واستمرار توليد الطاقة بالطرق الـمُؤذية للبيئة!.
مما نتج عن ذلك ارتفاع ملموس لدرجات الحرارة سنوياً، حيث بلغت في السنوات الأخيرة 1.7 درجة مئوية عن المتوسط السابق قبل العصر الصناعي 1.09 درجة مئوية إضافة للمتوسط العام لدرجة الحرارة، وهذا يشكل عبئاً على الكائنات الحية وعلى المناطق المُتجمدة، فقد لوحظت في السنوات الأخيرة ارتفاع معدل الفيضانات والعواصف في كثير من الدول بسبب ذوبان الجليد، وفي الوقت نفسه جفاف في دول أخرى، فارتفعت حرارة الأنهار والبحار والمحيطات، التي تمتص حرارة الاحتباس الحراري، فأصبحت حياة الملايين مُهددة في الجزر وعلى الشواطئ والمناطق المنخفضة عموماً في العالم، ولم يقتصر الأمر على ذلك فلقد أثر أيضاً على الكائنات الحية الأخرى فأصبح يهدد كثيرا من الأنواع، فلقد ظهرت أنواع جديدة مُنافسة للبشرية في غذائها، واختفت أخرى كان لها دور في التناغم البيئي، بعضها تأثر بسبب الاحتباس الحراري، وبعضها تأثر بفقدان بيئتها كالغابات والمروج، والبعض الآخر بالطقس القاسي والآفات والأمراض المستوطنة والعابرة والمُستحدثة، والبعض الآخر بسبب تغير في حموضة مياه البحار والمحيطات والمجمعات المائية، وفي دراسة تقول: «إن العالم اليوم يفقد حالياً بمعدل يفوق ألف مرة عما كان عليه في القرون الماضية من الكائنات الحية»، مما ينتج عنه نقص حاد في الغذاء، فزادت نسبة المجاعات حول العالم، والأوبئة والأمراض، وكذلك الصراعات ليحدث التهجير القسري وتكسد الناس في أماكن وخلو أماكن أخرى من الحياة، مُخلفاً الفقر والجوع والمرض واستمرار وتوسع دائرة الصراعات.
ولكن ما زال الأمل قائما، والمجال ما زال مفتوحا، والتفاؤل واجب لكي نتدارك الأمر، ونقلل من سرعة ومعدل التغير المناخي والآثار المُترتبة عليه، في تنفيذ السياسات العلاجية الفعلية على أرض الواقع، وإلزام الدول المُصنعة في التخفيض الفعلي لمعدل الغازات الدفيئة المنبعثة، وسنّ القوانين في كافة دول العالم بضرورة التوجه لإنتاج الطاقة النظيفة والمتجددة، وإعادة التخطيط على المنظور القريب وطويل الآجل، لسياسة الصناعة والإنتاج والاستهلاك، والتوسع في زراعة المناطق وصيانة الغابات والمحميات الطبيعية، فهناك علاقة إيجابية بين الغطاء الأخضر والتنوع الحيوي، كذلك استخدام وسائل النقل الجماعية المُوفرة لتقليل نسبة العوادم والازدحام، وتعزيز المعالجات الطبيعية، ليكون الأمر أكثر جدية وإلزاما، فمطلوب من الجميع «دول ومنظمات وهيئات وأفراد» وبشكل فوري أكثر من أي وقت مضى، لتحقيق التنمية المُستدامة ومواجهة التحديات البيئية بنوع من التكامل والتكافل والمنافع المشتركة بعيداً عن الاستقواء والأنانية والاستحواذ على إرث البشرية، وكذلك الاستهلاك الأمثل طبقاً للاحتياجات الفعلية من الغذاء والماء فهما كفيلان باستدامتها، فالهدر والتبذير طريق الهلاك.
كذلك تعزيز البحث العلمي العميق عن المحاصيل والأصناف الزراعية المقاومة للجفاف والمُتحملة للحرارةِ والملوحةِ والتوسع في زراعتها، وعلى نفس السياق البحث عن الأصناف والحبوب غير المُستغلة في سلاسل إمداد الغذاء، كذلك يجب الحفاظ على التنوع الحيواني بما يضمن الاتزان البيئي، فلكل كائن على وجه هذه الأرض دورٌ حيوي قد لا نعلمه، لكن سنعرف ذلك عند اختفائه وانقراضه.
كما يجب تفعيل أنظمة الإنذار المبكر والرصد والمحاكاة، أكانت أعاصير أوعاصفة أو فيضانا أو موجة حرّ..، حتى يتم الاستعداد لها ومواجهتها فقد يحدُّ من الإضرارِ والمخاطر بنسبةٍ كبيرةٍ وخاصة في الأرواح.
كما يعتبر التشجير داخل المُدن المُكتظة وعمل المُسطحات الخضراء وزراعة نواصي الشوارع ذا أهمية صحية وبيئية، فهناك دراسة علمية تقول «إن شجرة واحدة قد تعادل عمل مكيفين يعملان لمدة يوم كامل».
ومن المعالجات التي يجب اتباعها في مواجهة التغيير المناخي هو في إعادة صياغة وتحوير طرق عمل البُني التحتية واستخدام المواد المُقاومة والطرق الهندسية الفنية والتقنيات الحديثة، في المناطق المناسبة وتشمل التخطيط بنوعيه قصير وطويل الأجل ووضع قوانين البناء والارتفاع الأمثل للمباني، وكذلك الاستغلال الأمثل للمساحات، بالإضافة لنوعية المواد المستخدمة، المزودة بمصائد الطاقة النظيفة، واستغلال مياه الأمطار الساقطة.
تعزيز الاستثمار في إنشاء المسطحات الخضراء وإنتاج الطاقة النظيفة من الرياح والشمس وأمواج البحار ومصبات السدود وغيرها، وكذلك الاستثمار في إنتاج الغذاء واستغلال المساحات الصغيرة كالبيوت المحمية وتعزيز الإنتاج الزراعي العضوي، للتقليل من المواد المصنعة كالأسمدة والمبيدات وغيرها المؤثرة على البيئة وعلى الصحة العامة.
كما أن تفعيل النظام السُكاني الجماعي، وعمل المُجمعات السكنية في إطار الحدِّ من تدهورِ مساحة الرقعة الصالحة للزراعة، وسهولة تطبيق نظام الترشيد المائي والكهربائي، ولسهولة جمع ومعالجة وتدوير المخلفات.
كما أن الأمن المَائي رديف للأمن الغذائي، فإن الاستخدام الأمثل للمياه وترشيد استخدامها وإعادة تدويرها والحصاد الأمثل لمياه الأمطار وعمل الخزانات المائية والسدود والحواجز، واستخدام أنظمة الري والتقنيات الحديثة في الزراعة كفيلة باستدامة ووصول الماء للسكان.
وختاماً تُصنف المنطقة العربية عُموماً ضمن المناطق الجافة وشبه الجافة على مستوى العالم وأكثرها حساسية للتغيرات، ومعدل التغير فيها يزيد بنسبة ثلاثين في المائة عن المعدل العالمي، وهو ما قد يزيد من حدة الصراعات، والتغييرات البيئية مستقبلاً، ومن هذا المنطلق أن المعالجة الجدّية ومواجهة التحديات ضرورة حتمية، والاستغلال الأمثل لمواردنا في باطن الأرض وسطحها وفي البحار وأعماقها، وسرعة تنفيذ الأحزمة الخضراء حول المدن، كما يجب تعزيز مفهوم المناخ والبيئة لدى الأفراد أياً كان موقعه للإحساس بالمسؤولية المشتركة، فالمسألة حياة وبقاء، قد نستطيع شراء الغذاء، وشراء الماء، شراء أي شيء، لكن لن نستطيع شراء البيئة، فنحن فقط مسؤولون عنها والحفاظ عليها والذود عنها، لسلامتنا وحفاظاً على الأجيال المتعاقبة من بعدنا.
** **
- باحث في جامعة الملك سعود