لم تعد الدبلوماسية الرقمية مصطلحاً حديثاً، أو أداة مكملة فقط للعمل الدبلوماسي العام بل أصبحت واقعاً ملموساً وعنصراً أساسياً في نظام السياسات الخارجية للدول الكبرى، ونقطة انطلاق نحو تغيير موازين القوى، والنفوذ، وتشكيل التحالفات، وتتجلى هذه الصورة كثيراً في التحالف الرقمي للاتحاد الأوروبي مع أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، المقرر إطلاقه في قمة 2023، بعد سلسلة من المشاورات والتمهيدات على مدار العامين الماضيين، وبحسب ماذكر «خوسيه إغناسيو» رئيس المركز الأوروبي للعلاقات الخارجية وزميلته «كارلا هوبز» مديرة برنامج المركز الأوروبي للعلاقات الخارجية حول هذا التحالف الوشيك الذي يركز في عمله على استثمارات الاتصال، والأمن السيبراني، فإنه يأتي لهدف رئيسي آخر وهو مواجهة الوجود المتنامي للصين وروسيا على المستويين الاقتصادي والسياسي في المنطقة بواسطة الدبلوماسية الرقمية.
وتهتم «الدبلوماسية الرقمية- Digital Diplomacy» بتوظيف تكنولوجيا الاتصال الحديثة، وشبكات التواصل الاجتماعي لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، وممارسات الدبلوماسية العامة، وتأخذ أشكالاً مختلفة، وأنماطاً متعددة، مرتبطة بالأمن السيبراني، والخدمات الرقمية، والبيانات والمعلومات، والسفارات الرقمية، حيث تطور الأمر إلى تعيين سفراء رقميين، وسيبرانيين من قبل بعض الدول التي تبنت هذه السياسة ذات التأثير الفعال، وغير المكلف نسبياً.
وقد ساهمت رؤية 2030 في التوسع، والنمو السريع للدبلوماسية الرقمية في المملكة العربية السعودية بعد أن كانت مقتصرة على الموضوعات ذات البعد السياسي، والاقتصادي، لتشمل مجالات أوسع، ومثلت القاعدة الصلبة والإرث العريق للعمل الدبلوماسي في المملكة على مر التاريخ نقطة انطلاق مهيأة للدبلوماسية الرقمية، مدعومة بالبنية التحتية الرقمية النوعية، والتطور التقني الذي وفر لها كل الإمكانيات لنشر الأفكار، وبناء العلاقات في مختلف المجالات، إضافة إلى ثراء المحتوى المحلي، وتنوع الموضوعات المتعلقة بالمملكة بفضل موقعها ومكانتها الدولية، والتواجد النخبوي والمؤثر فيها على مستوى المستخدمين للمنصات والوسائل الرقمية.
ويعد الأمن السيبراني ركناً قائماً بذاته في العمل الدبلوماسي، وأكثره التصاقاً بالمسار العام منها، كون نطاق عمله، وتأثيره بعيداً بعض الشيء عن الرأي العام، وهو جزءٌ من استراتيجيات النفوذ، وموازين القوى التي تنظّم العلاقات الدولية، وشرط لتحقيق الازدهار، والتقدّم، كما أنه في الوقت نفسه عامل أساسي ورئيسي لضمان نجاح أشكال الدبلوماسية الرقمية الأخرى وعدم تعرض البنية التحتية الرقمية المرتبطة بمصالح الأمن القومي الوطني للتهديدات السيبرانية، على غرار ما يسمى بوثائق «WikiLeaks» المتعلقة بملفات السياسة الخارجية الخاصة بين الولايات المتحدة وسفاراتها بالخارج، والتي تم عرضها للعلن.
وفي هذا الجانب نجحت المملكة بشكل استثنائي، ووقت قياسي في بناء منظومة سيبرانية، وفقاً لأعلى مستويات الاستقلالية الاستراتيجية الممكنة في الجوانب التكنولوجية، والتنظيمية، وبناء القدرات، والتي مكّنت المملكة من تحقيق أعلى المراتب في مصاف الدول الرائدة بالمجال، وتصنيفها في المرتبة الثانية عالمياً من بين 193 دولة، وفق المؤشر العالمي للأمن السيبراني ضمن تقرير الكتاب السنوي للتنافسية العالمية للعام الحالي، والصادر عن مركز التنافسية العالمي التابع للمعهد الدولي للتنمية الإدارية في سويسرا IMD والذي يُعد واحداً من أكثر التقارير شمولية في العالم، إضافة إلى شهادة التميّز في القمة العالمية لمجتمع المعلومات 2022.
وبفضل هذه المنظومة المتينة للأمن السيبراني تمكنت المملكة من ممارسة مهامها الدبلوماسية ومواجهة الآثار التي فرضتها جائحة كورونا على التواصل الفعال للقادة وتنسيق اللقاءات الجانبية على هامش الملتقيات، والمؤتمرات الدولية التي تمنح المسؤولين فرصاً لتبادل وجهات النظر بخلق حالة استثنائية غير مسبوقة للتواصل الافتراضي برئاستها لمجموعة العشرين لعام 2020.
كما تشهد المملكة خلال الأيام القادمة استضافة المنتدى الدولي للأمن السيبراني 2022 تحت شعار «إعادة التفكير في الترتيبات السيبرانية العالمية» الذي تنظمه الهيئة الوطنية للأمن السيبراني ويعد منصة عالمية تجمع صنّاع القرار، وممثلي الحكومات، والشركات، وقادة الأمن السيبراني، والأوساط الأكاديمية، والمنظمات غير الحكومية، ويناقش المتغيرات الجيوسياسية، والاستراتيجية المتسارعة، والتطورات التي يشهدها القطاع، وآفاق تشكيل مستقبل الأمن السيبراني على مستوى العالم.
وفي حين أنه لا يوجد يقين حول مستقبل الدبلوماسية الرقمية، وإلى أي مدى سيصل امتدادها، وتأثيرها في مجال العلاقات الدولية خلال السنوات المقبلة، يبقى اليقين بأنها في علاقة مضطردة متداخلة مع الأمن السيبراني ومدى نجاحه في توفير بيئة آمنة وموثوقة لها.