جوهر عمل إدارة التنظيم هو توثيق مهام وواجبات الإدارات وتوضيح إجراءات العمل وتوزيع المسؤوليات، ليس لتفادي اللبس عند التنفيذ فحسب، بل لتستعين بها إدارة الأداء في وضع المعايير ومحاسبة الموظف أو مكافأته على إبداعاته ومبادراته.
إلا أني طيلة عملي الوظيفي لم أجد في المعايير ما يشجع الموظف على تنفيذ مبادرات خارج إدارته، على الرغم من وجود مواهب تحرص على صقل معارفها، لديها أفكار إيجابية متنوعة ذات أثر يخدم مصلحة المنشأة وربما المصلحة العامة عند تبادل المعارف والتجارب الناجحة بين المنشآت.
بفضل الله، أتيحت لي طيلة عملي الوظيفي أكثر من فرصة لتنفيذ مبادرات في إدارات أخرى خلاف إدارتي، وكان لها الأثر البالغ في تحسين جودة إجراءات العمل لتلك الإدارات، منها مبادرة مشروع أسميته «تمام» يُعنى بتحديث معلومات منسوبي المنشأة وتأسيس أول قاعدة معلومات إحصائية لبيانات الموظفين لأغراض التنظيم والتخطيط.
كما أتيحت لي فرصة تنفيذ مشروع أسميته «الفسيلة»، هذا المشروع جماله في توقيت فكرته، حدث قبل شهر من إحالتي إلى التقاعد، والتسمية كانت تيمناً بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها». بالفعل قامت ساعة الوظيفة، والفسيلة في يدي، فبادرت منتشيا بزراعتها قبل ذبولها. الفكرة نتجت عن ردة فعل لورقة «إخلاء الطرف» التي تعطى للموظف لإنهاء توقيعها وختمها من ثماني إدارات للتأكد من تسليم العهد أو المتعلقات التي بحوزته لكل إدارة، وهو عمل روتيني ظاهره البساطة لكنه يحوي من التعقيد - لدى بعض المنشآت - ما يُخجِل أن يكون خاتمةً توديعيةً حسنةً - إن صح التعبير - لموظف أفنى عمره في خدمة منشأته. أحدهم يروي قصة مسؤول طالبوه بإعادة آله حاسبه تاهت بين تنقلاته وتعدد مناصبه طيلة عمره الوظيفي، مما أضطره للذهاب إلى «الحراج» لشراء شبيها لها وتسليمها، بعد أن هم قسم العهد بتشكيل لجنة لأعداد محضر «فقد عهده» وتغريمه قيمتها حسب النظام.
من النظرة الأولى عند استعراض المشكلة، وجدت أن الإدارات - من خلال سجلاتها - هي المسؤولة عن متابعة العهد وتسليمها للموظف واستلامها منه بحلول تقاعده أو بانتهاء الغرض، وبالتالي فإن عليها التواصل مع الموظف برسائل نصية دورية للتذكير بالعهد والحث على إعادتها إذا انتهى الغرض منها، وعند حلول تقاعد الموظف تخلي طرفه لدى إدارة شؤون الموظفين إذا لم يكن مطالبا بشيء دون الحاجة إلى مراجعة الموظف لها أصلاً.
من هنا نشأت فكرة مشروع «الفسيلة»، فبمجرد صدور بيان بأسماء الموظفين المحتمل تقاعدهم خلال الثلاثة الأشهر الأخيرة من عملهم، تصدر إلكترونياً - عبر برنامج تم تصميمه لذات الغرض- إشعارات إلى الإدارات المعنية لإخلاء طرف الموظفين أو أشعارهم برسالة نصية «مهذبة» تسرد المتعلقات المطلوب إرجاعها مذيلة برقم هاتف التواصل بالإدارة، وبمجرد أن يقوم الموظف بتسليم العهد والمتعلقات يخلى طرفه في حينه، لتقوم إدارة شؤون الموظفين بإصدار بطاقة التقاعد مع آخر يوم عمل.
الجميل أني وجدت متعة الانتهاء من مشروع «الفسيلة» بعد إحالتي للتقاعد، عندما تلقيت اتصالات من زملائي المتقاعدين يشيدون بالمشروع على أنه عمل تكريمي للموظف المتقاعد بديلاً عن «مرمطته» بين الإدارات لإنهاء الورقة بنفسه. فكرة المشروع - كما يلاحظ - في غاية البساطة، إلا أنها رفعت نسبة رضا المستفيدين من الحضيض إلى أعلى درجات الرضا بجهود متواضعة وكفاءات من داخل المنشأة، ناهيك عن أنها تجربة ناجحة يمكن للقطاعات الحكومية المماثلة الاستفادة منها، فجميعها تستخدم نفس نموذج إخلاء الطرف.
الأفكار والمبادرات أحياناً تدخل في إطار المثل العربي «زامر الحي لا يطرب»، إلا أن الإشكال يكمن في أن بحث الموظف عن حي آخر ليحدث فيه أثراً إيجابياً، يراه البعض تطفلاً واستعراضاً، وأحياناً يفسر بأنه محاولة لكشف عجز الجهة عن ابتكار مبادرات جديدة كانت غائبة عنها، بينما الموظف المبادر يرى لمبادرته أبعاداً معنوية وحسية منقطعة النظير، ناهيك عن تمازج الخبرات بين الموظفين في الإدارات وتلاقح أفكارهم للخروج بمنتج مبدع.
ولتخطي إشكالية «زامر الحي»، ومن باب تقبل النقد، فإن على الإدارات فتح الآفاق للأفكار الجديدة، واستعراض فرص التحسين والتطوير بشكل دوري، وطرحها كمبادرات يقتنصها من الموظفين من يرى أو يرون في أنفسهم الكفاءة لإنجازها، مع مراعاة مكافأتهم ولو بتوثيقها في ملفاتهم حفظا لأبسط الحقوق.